يشير العنوان إلى القصة المعروفة في 'كليلة ودمنة' حيث اتفقت سلحفاة مع بطتين صديقتين على حملها إلى مكان فيه ماء فأخذت كل بطة بطرف عود وطلبتا من السلحفاة أن تتعلق بوسطه وحذرتاها قائلتين : 'إياك إذا سمعت الناس يتكلمون أن تنطقي'. ثم أخذتاها فطارتا بها في الجو. فقال الناس: 'عجب! سلحفاة بين بطتين قد حملتاها'. فلما سمعت ذلك قالت: 'فقأ الله أعينكم أيها الناس'. فعندما فتحت فاها بالنطق وقعت على الأرض فماتت.
هذه قصة خيالية, ولكنها ليست خرافة, فوقائعها محتملة الحدوث, وبطلها ليس مستحيلاً وجوده, ومن يدري? ربما كان حيًّا يرزق! والواقع أنني أعرفه, بل تربطني به صلة أقوى وأشهي من القرابة والنسب, صلة الجوار. فنحن أولاد حارة واحدة. أسارع وأقول إنها - والحمد لله - حارة مسدودة, فمثل هذه الحارات وحدها هي التي تعمل في تصفية الود بين الجيران ما تعمله الزجاجة في تعتيق الشراب. على رأس الحارة تقوم دار داود أفندي بطل هذه القصة الخيالية: واجهة طويلة بها الباب على الحارة, وواجهة أخرى على الشارع, مع أنها شبر ونصف شبر عرضًا, إلاّ أنها تدل على أن صاحب الدار أوجه وأغنى من بقية السكان الذين لا يستطيعون رؤية الزّفات والمواكب و"الخناقات" إلاّ بثني رقابهم, وبخطر الوقوع في يد رجال الإسعاف.
وداود أفندي لو خرج من بين سطور هذه القصة الخيالية وعاش, لكان الوحيد بيننا الذي يسكن في ملكه. والمعروف أن له أيضًا استحقاقًا في وقف عن أم أمه أو جد جده, فلماذا يتشبث بهذه الدار القديمة في هذه الحارة المسدودة?! لو كنت مكانه لانتقلت إلى الحلمية أو المنيرة. كلنا نُجلّه لِغناه, و"نستعبطه" لنزوله إلى مستوانا, ولَعلّي كنت من بين سكان الحارة, أكثرهم ارتباطًا به رغم اختلافنا في السن والمهنة.
كنت إذا عدت لداري من المطبعة في صفرة الشمس, ومررت عليه وهو جالس أمام باب داره, دعاني لمجالسته وتشبث بي, كأنه يجد لذة في أن تصافح يده الناعمة النظيفة يدًا صلبة خشنة كيدي. في هذه الجلسات تأتّى لي أن أنصت لهُ أو أحثُّه على القول حتى وقفت على تاريخ حياته, وليس فيها - مع الأسف - شيء من الأسرار التي تشرئب لها الأذن. هو من أولاد الذوات الذين ورثوا عن وارثين عن وارثين, فكان من المعقول أن يفتقروا طبقة بعد طبقة وجيلاً بعد جيل, فأصبحوا كالحيوان البرمائي لا هو هنا ولا هو هناك. فهم لذلك أسرع انقراضًا. هو بالنسبة إلينا غني, ولكنه في الواقع فقير. ومع ذلك, فهو يعتز بأصل لا يغنيه فيستريح, ولا يسلكه في الفقراء فيريح. وماذا يفعل وهو من قمة رأسه إلى أخمص قدميه ابن عز في كرمه وجهله, في طيبته مع معارفه, وازوراره, بل نفوره, من الغرباء? تجافيه عن العالم الخارجي فيه تمسك بالماضي, كأنه يعيش من وراء سدّ الصين. له قصص شائقة عن تخوت الحمولي وعثمان. بين الحين والحين يخرج علبة بيكاربونات الصودا ويسفّ منها قليلاً دواء لمعدته, هو متأنق لا يأكل إلاّ أخفّ الطعام في أغلب أيامه. وهو ككل أولاء الذوات الذين تربوا في آثار عز سالف, وجدت فيه مع الكبرياء والأنفة كثيرًا من أخلاق الصبيان وقلة دراية بالحياة في معتركاتها.
أذكر هذا لأنني كنت جالسًا معه في إحدى الأمسيات, فرأيت صبي شيخ الحارة قادمًا علينا, مجدًّا في خطواته, ساهم النظرة كأنه في غيبوبة. هو زنجي وأغلب الظن أنه ولد في بوظة أو كان مهده قرعة. وجه نحس بشفته الغليظة الباذنجانية. وعيونه المختبئة تحت جفونه المرتخية تبدو كالخرزة الزرقاء لا تفترق عن عيون التيس في جمودها ومكرها. حتى إذا وقف أمامنا أخرج من جيب سترته ورقة صغيرة متسخة وسلمها لداود أفندي. ما هذه? دارت نظرتي خلسة في لهف حول كتفه, ووقعت على الورقة, فوجدت مكتوبًا عليها "91 أحوال".
- حضرتك مطلوب في القسم باكر.
- ليه?
لا جواب.
- عند مين?
لا جواب.
تحرك الأسود وسار. فعزرائيل لا يتريث ليبكي مع أهإلى الميت. ثم ما كاد يسير خطوتين حتى أفاق لنفسه وعاد إلينا من جديد, فأصول اللطمة أن تكون من قلمين, ومال بوجهه - وجه الوابور - على أذن داود أفندي:
- عمي يرجوك ويرجوك ألاّ تتأخر.
ثم كأنه فص وملح وذاب.
داود أفندي قلق, حائر. بين حين وآخر يسألني:
- يا ترى لماذا? لم أذهب للقسم في حياتي, وأشد ما أكره أن أتخطى بابه وأواجه هذا الصنف المسمى رجال البوليس! أعوذ بالله! من الذي اشتكاني? هل أتيت جرمًا دون أن أعلم?
كنت غير ملقٍ بالي إلى همّه التافه. ولكني انتبهت وعجبت من أن كثيرًا من الناس الطيبين لا يسلمون في بعض الأحيان من الوهم والشك في براءة ماضيهم. ألأنّ في قلوبهم نازعًا خفيّا إلى الإجرام فتختلط في أذهانهم الرغبة بالحقيقة, أم هم يستيقظون فجأة إلى أنه ليس هناك دليل واحد على أن الحياة غير مزدوجة?!
قد يكون الشخص الواحد مع الناس يذهب ويجيء, ولكنه لا يستطيع أن يكون واثقًا كل الوثوق من أن ليس له في الوقت نفسه حياة أخرى مبهمة كالأحلام, لا يشعر بها, كما لا يشعر بما حوله من ركبه الدوار: حياة تتصل طيّ ضباب كثيف, بحياة أشد غموضًا لكائنات أخرى.