ثواب المسعى. اتفق معي داود أفندي على أن يقوم هو بالإنفاق على الدعوى في نظير اقتسام ما يحكم به مناصفة بينهما. وأسر إلى داود أفندي أنه سيرهن مصاغ زوجته ليصرف على الدعوى.
بعد يومين رأيته يحمل "دوسيها" في يده سائرًا مُجِدًّا إلى المحكمة..
***
حدث بعد ذلك أنني نسيت جاري العزيز داود أفندي نسيانًا تامًّا, لأنني كنت قد نجحت في تحقيق أمنية طالما كتمتها في صدري, ولازمتني الليالي تنغص عليّ نومي وأكلي وشربي. كنت أريد أن أتخلص من وسط عمال اليومية وألتحق بطبقة الأفندية أصحاب المرتبات الشهرية. فكم إبليت نعليّ, وأحفيت قدميّ, وكم أرقت ماء وجهي وجف لساني - ويغني قولي هذا عن التفاصيل - حتى نلت رغبتي, وعينت حاجبًا أمام باب قلم في وزارة. تخلصت من ماضيّ الكريه كله, وتخلّصت أيضًا من الحارة المسدودة اللعينة, وسكنت المنيرة.
مضى عليّ في وظيفتي زمن. وذات يوم وأنا عائد من سوق الخضار, وفي يدي قرطاس بلح آكل منه, مررت على مطعم ولشد ما دهشت إذ وجدت فيه داود أفندي جالسًا أمام طبق فول مدمس. داود أفندي "بجلبية" وجاكتة, تجمع أصابعه بلقمة حبات الفول وتعجنها في الزيت, ثم تحملها كتلة واحدة - كالكرة - إلى فمه, ويتجشأ برائحة البصل الأخضر والفجل. أشهد الله أن قلبي انشرح, وأنني سررت كل السرور لحسن صحته ولتخلصه من أمراض معدته. وأشهد الله أنني شعرت بموجة شوق قوية تملؤني, فجريت نحوه ومددت له يدي مشتاقًا يكاد الفرح يقفز من كياني قفزًا.
- داود أفندي? سلمات, إزيك!
ولكنه ترك يدي ولم يأخذها, ولما رفع إليّ عينيه لم تستقر نظرته على وجهي حتى رأيتها تمتلئ بأقصى ما تستطيع العين أن تستوعبه من الكراهية والتأفف والبغض. وإذا به يصرخ في وجهي ويشيح عني:
- روح الله يخرب بيتك زي ما خربت بيتي!
تملكتني الحيرة فسُمِّرتُ في مكاني. أي جرم أتيت? وماذا فعلت? لا أذكر إلاّ أنني كنت دائمًا تحت أمره كأنّني عكازه. كنت أجلس منه مجلس الولد من أبيه, وأترك عملي لأكون في خدمته, ولا أذكر أنني خنته أو آذيته أو أضللته.
ولكن هذه المحاولات لم تفلح في سند سياج كنت أقيمه بكل جهدي طول الوقت, لتتحصن وراءه نفسي, ولو لتعيش في دنيا أوهامها في حمى من شك خفي بدأ يدب في قلبي, وإذا بالسياج يرغمني وينهد, وتبرز لي من ورائه تحملق في وجهي كعيون البوم, تهمة بشعة كالعدم, قاسية كالقدر المترصد راسخة كالأزل.
"كن طيّبًا ما أمكنك, حذرًا ما استطعت, فلن تكون يدك إلاّ أذى, ولا قدمك إلاّ سوءًا". شعرت في جسمي ببرودة الموت, وعشت زمنًا أرثي لحالى وأقول: يا لي من مسكين! ولكن سرعان ما أنفت هذه الضعة, وأعدت نفسي للحياة - والحياة تقوي على أقوى الآلام! - بقولي لنفسي:
- هوّن عليك... أين فجيعتك? هذه قصة خيالية, ولكنها ليست خرافة...
وهكذا من أول وجديد