أدنى الأرض
يحدثنا القرآن في عصر لم يكن باستطاعة أحد أن يقيس أخفض نقطة على سطح اليابسة من الأرض، يحدثنا عن هذه المنطقة بالذات، وأن معركة وقعت فيها وكانت نتيجتها انتصار الفرس على الروم. يقول تعالى: (الم * غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ * وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ * يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآَخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ) [الروم: 1-7].
لقد حدَّدت هذه الآيات موقع المعركة في (أدنى الأرض) فما هو معنى هذه العبارة؟ وهل يمكن أن نفهمها بأنها تعني فقط (أقرب الأرض) كما فسَّرها المفسِّرون الأوائل رحمهم الله تعالى أم أن هنالك معاني أخرى؟ وهل هنالك معجزة في هذه الآية الكريمة؟
رحلة من التأملات
لقد تأملت هذا النص الكريم طويلاً واطلعتُ على تفاسيره فوجدتُ أن المفسرين يفسرون قوله تعالى (أدنى الأرض) بأقرب الأرض أي أقرب أرض الروم إلى أرض العرب وهي أغوار البحر الميت أي المنطقة المحيطة بهذا البحر.
ولكن الذي لفتَ انتباهي هو أن عبارة (أدنى الأرض) عامة وليست خاصة بأرض العرب، أي أن القرآن في هذه الآية يطلق صفة (أدنى) على الأرض دون تحديد أرض معينة، ولذلك فقد فهم المفسرون أن الأدنى هو الأقرب بسبب أنهم لم يتصوّروا أن هذه المعركة قد وقعت في أخفض منطقة على وجه اليابسة.
ثم تأملتُ قوله تعالى عن المسجد الأقصى وهو مسجد يقع في مدينة القدس التي لا تبعد سوى عشرين كيلو متراً عن منطقة البحر الميت حيث دارت المعركة، يقول تعالى: (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آَيَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) [الإسراء: 1]. وبدأت التساؤلات: كيف يصِف الله تعالى منطقة البحر الميت بأنها "أقرب الأرض"، ثم يعود ويصِف المسجد الموجود هناك بأنه "المسجد الأقصى" أي الأبعد؟؟
ثم تأملتُ في الخرائط الجغرافية فوجدتُ بأن المنطقة التي وقعت فيها المعركة وهي التي سماها القرآن بـ (أدنى الأرض) تبعد عن مكة أكثر من ألف ومئتي كيلو متراً، فكيف تكون هذه الأرض هي "الأقرب" وهي تقع على هذه المسافة الكبيرة؟ وكيف يكون المسجد الأقصى هو "الأبعد" وهو يقع على نفس المسافة من مكة المكرمة حيث نزلت هذه الآيات؟
ثم تساءلتُ: لو أن الله تعالى يقصد كلمة (أقرب) فلماذا لم يستخدم هذه الكلمة؟ إذن كلمة (أدنى) هي المقصودة وهي الكلمة التي تعطي المعنى الدقيق والمطلوب وهذا ما سنراه يقيناً.
(منطقة البحر الميت هي أخفض منطقة على سطح الأرض)
معاني متعددة للكلمة
نعلم بأن الله تعالى قد خلق سبع سماوات طباقاً وسمى السماء السفلى أي أخفض سماء سمَّاها (السماء الدنيا)، فقال: (فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) [فصلت: 12]. وهنا كلمة (الدنيا) جاءت بمعنى الأقرب من الأرض، ولكن تتضمن معنى آخر وهو الطبقة السفلى بين طبقات السماء السبعة. وسُمِّيت بالدنيا لدنوِّها من الأرض (3).
ويقول أيضاً: (وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) [السجدة: 21]. ويفسر المفسرون كلمة (الأدنى) هنا بمصائب الدنيا وأمراضها. وهنا لا يمكن أن تكون (الأدنى) بمعنى الأقرب بل (الأصغر) لأن الله تعالى يقارن في هذه الآية بين نوعين من أنواع العذاب:
1- (الْعَذَابِ الْأَدْنَى)
2- (الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ)
إذن في هذه الآية نحن أمام مقياسين هما (الأدنى) و(الأكبر) أي الأصغر والأكبر، كما نعبر عنه في مصطلحاتنا اليوم بالحدّ الأدنى والحد الأعلى، ونقصد الأصغر والأكبر.
يقول تعالى: (مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا) [المجادلة: 7]. وهنا جاءت كلمة (أدنى) بمعنى أقلّ لأنها قد أُتبعت بكلمة (أكثر). ونرى أن كلمة أدنى تُستخدم هنا مع الأعداد.
كيف نفهم الآية؟
إذن من معاني كلمة (أدنى) لدينا: الأقل والأصغر والأقرب، فما هي المنطقة على سطح الكرة الأرضية والتي تتصف بهذه الصفات الثلاث؟ إنها منطقة البحر الميت، فهي:
1- الأقرب: حيث هي أقرب أرض للروم إلى أرض العرب.
2- الأصغر: فهذه المنطقة مساحتها صغيرة جداً ولا تتجاوز الكيلو مترات المعدودة، وذلك مقارنة بمساحة سطح الأرض والتي تزيد على ملايين الكيلو مترات المربعة.
3- الأقلّ: فهذه المنطقة هي الأقل ارتفاعاً على سطح اليابسة، فهي تنخفض عن سطح البحر بمقدار 400 متراً تقريباً، ولا يوجد في العالم كله أدنى من هذه النقطة إلا ما نجده في أعماق المحيطات.
ولكننا نجد المعاجم تورد معنى الأسفل أو الوادي ضمن معاني هذه الكلمة، فعلى سبيل المثال لدينا في القاموس المحيط في معنى كلمة (دنا): تقول العرب الأدنيان وهما واديان. وفي لسان العرب : والأَدْنَى: السَّفِلُ، فالعرب لا تستغرب أن يكون ضمن معاني هذه الكلمة هو الأسفل أو الوادي.
إن هذه الدقة العلمية في استخدام الكلمات القرآنية هي ما نجده في قول الحق تبارك وتعالى: (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا) [النساء: 82].
إن هذه الآية تقرر أننا إذا ما تدبرنا القرآن سوف لن نعثر فيه على أية تناقضات وهذا دليل كاف على أنه كتاب الله تعالى. إن كتب البشر نجدها تتحدث عن نظرية علمية ثم يأتي عصر يثبتُ فيه خطأ هذه النظرية ورفضها تماماً، بينما نجد القرآن صالحاً لكل زمان ومكان وميسّر الفهم.
إن ميزة القرآن الكريم أن البدوي في الصحراء كان لا يجد مشكلة في فهمه والتعامل مع كلماته ومعانيه، وعالم الذرة يفهمه أيضاً ولا يجد مشكلة في تدبره مهما تطور العلم، وعالم اللغة يفهم منه أشياء قد لا يفهمها غيره، وعالم الفلك قد يرى فيه حقائق لم يرها أحد من قبله، وهكذا هو كتاب شامل كامل لجميع البشر ولجميع العصور.