ولم سخت نفس أحدهم بالكثير من التبر، وشحت بالقليل من الطعم، وقد علم أن الذي منع يسير في جنب ما بذل، وأنه لو شاء أن يحصل بالقليل مما جاد به أضعاف ما بخل به، كان ذلك عتيداً، ويسيرا موجوداً؟ وقلت: ولا بد من أن تعرفني الهنات التي نمت على المتكلفين، ودلت على حقائق المتموهين، وهتكت عن أستار الأدعياء، وفرقت بين الحقيقة والرياء، وفصلت بين البهرج المتزخرف، والمطبوع المبتهل؛ لتقف - زعمت - عندها، ولتعرض نفسك عليها، ولتتوهم مواقعها وعواقبها.فإن نبهك التصفح لها على عيب قد أغفلته، عرفت مكانه فاجتنبته. فإن كان عتيداً ظاهراً معروفاً عندك نظرت: فأن كان احتمالك فاضلاً على بخلك، دمت على إطعامهم، وعلى اكتساب المحبة بمؤاكلتهم، وإن كان اكترائك غامر الاجتهاد سترت نفسك، وانفردت يطيب زادك، ودخلت مع الغمار، وعشت عيش المستورين. وإن كانت الحروب بينك وبين طباعك سجالاً، وكانت أسبابكما أمثالاً وأشكالاً، أجبت الحزم إلى ترك التعرض، وأجبت الاحتياط إلى رفض التكلف، ورأيت أن من حصل السلامة من الذم فقد غنم، وأن من آثر الثقة على التغرير فقد حزم.
وذكرت أنك إلى معرفة هذا الباب أحوج، وأن ذا المروءة إلى هذا العلم أفقر، وأنى إن حصنت من الذم عرضك، بعد أن حصنت من اللصوص مالك، فقد بلغت لك ما لم يبلغه أب بار، ولا أم رءوم.
وسألت أن أكتب لك علة أن الرجل أحق ببيته من الغريب، وأولى بأخيه من البعيد، وأن البعيد أحق بالغيرة، والقريب أولى بالأنفة، وأن الاستزادة في النسل كالاستزادة في الحرث، إلا أن العادة هي التي أوحشت منه، والديانة هي التي حرمته، ولأن الناس يتزيدن أيضاً في استعظامه، وينتحلون أكثر مما عندهم في استشناعه.
وعلة الجهجاه في تحسين الكذب بمرتبة الصدق في مواضع، وفي تقبيح الصدق في مواضع، وفي إلحاق الكذب بمرتبة الصدق، وفي حط الصدق إلى موضع الكذب؛ وأن الناس يظلمون الكذب بتناسي مناقبه، وتذكر مثالبه، ويحابون الصدق بتذكر منافعه، وبتناسي مضاره، وإنهم لو وازنوا بين مرافقهما، وعدلوا بين خصالهما، لما فرقوا بينهما هذا التفريق، ولما رأوهما بهذه العيون.
ومذهب صحصح في تفضيل النسيان على كثير من الذكر، وأن الغباء في الجملة أنفع من الفطنة في الجملة، وأن عيش البهائم أحسن موقعاً من النفوس من عيش العقلاء، وإنك لو أسمنت بهيمة ورجلاً ذا مروءةً، أو امرأةً ذات عقل وهمة، وأخرى ذات غباء وغفلة، لكان الشحم إلى البهيمة أسرع، وعن ذات العقل والهمة أبطأ. ولأن العقل مقرون بالحذر والاهتمام، ولأن الغباء مقرون بفراغ البال والأمن، فلذلك البهيمة تقنو شحماً في الأيام اليسيرة. ولا تجد ذلك لذي الهمة البعيدة. ومتوقع البلاء في البلاء وإن سلم منه. والعاقل في الرجاء إلى أن يدركه البلاء.
ولولا أنك تجد هذه الأبواب وأكثر منها مصورة في كتابي الذي سمي كتاب المسائل، لأتيت على كثير منه في هذا الكتاب.
فأما ما سألت من احتجاج الأشحاء، ونوادر أحاديث البخلاء، فسأوجدك ذلك في قصصهم - إن شاء الله تعالى - مفرقاً، وفي احتجاجاتهم مجملاً، فهو أجمع لهذا الباب من وصف ما عندي، دون ما انتهى إلى من أخبارهم على وجهها؛ وعلى أن الكتاب أيضاً يصير أقصر، ويصير العار فيه أقل.
ونبتدئ برسالة سهل بن هارون، ثم بطرف أهل خراسان، لإكثار الناس في أهل خراسان.
ولك في هذا الكتاب ثلاثة أشياء: تبين حجة طريفة، أو تعرف حيلة لطيفة، أو استفادة نادرة عجيبة. وأنت في ضحك منه إذا شئت، وفي لهو إذا مللت الجد.
وأنا أزعم أن البكاء صالح للطبائع، ومحمود المغبة، إذا وافق الموضع، ولم يجاوز المقدار، ولم يعدل عن الجهة، ودليل على الرقة والبعد من القسوة. وربما عد من الوفاة، وشدة الوجد على الأولياء. وهو من أعظم ما تقرب به العابدون، واسترحم به الخائفون.
وقال بعض الحكماء لرجل اشتد جزعه من بكاء صبي له: لا تجزع، فإنه أفتح لجرمه ، وأصح لبصره.
وضرب عامر بن قيس بيده على عينه، فقال: جامدة شاخصة لا تندى! وقيل لصفوان بن محرز، عند طول بكائه وتذكر أحزانه: إن طول البكاء يورث العمى. فقال: ذلك لها شهادة. فبكى حتى عمى.
وقد مدح بالبكاء ناس كثير: منهم يحيى البكاء، وهيثم البكاء. وكان صفوان بن محرز يسمى البكاء.
(1/2)