وإذا كان البكاء الذي ما دام صاحبه فيه فإنه في بلاء - وربما أعمى البصر، وأفسد الدماغ، ودل على السخف، وقضى على صاحبه بالهلع، وشبه بالأمة اللكعاء، وبالحدث الضرع - كذلك، فما ظنك بالضحك الذي لا يزال صاحبه في غاية السرور، إلى أن ينقطع عنه سببه؟ ولو كان الضحك قبيحاً من الضاحك، وقبيحاً من المضحك، لما قيل للزهرة والحبرة والحلي والقصر المبنى: كأنه يضحك ضحكاً. وقد قال الله جل ذكره: " وأنه هو أضحك وأبكى، وأنه هو أمات وأحياً " . فوضع الضحك بحذاء الموت.
وإنه لا يضيف الله إلى نفسه القبيح، ولا يمن على خلقه بالنقص.
وكيف لا يكون موقعه من سرور النفس عظيماً، ومن مصلحة الطباع كبيراً، وهو شيء في أصل الطباع، وفي أساس التركيب. لأن الضحك أول خير يظهر من الصبي. وقد تطيب نفسه، وعليه ينبت شحمه، ويكثر دمه الذي هو علة سروره، ومادة قوته. ولفضل خصال الضحك عند العرب تسمى أولادها بالضحاك وببسام وبطلق وبطليق. وقد ضحك النبي صلى الله عليه وسلم ومزح. وضحك الصالحون ومزحوا. وإذا مدحوا قالوا: هو ضحوك السن، وبسام العشيات، وهش إلى الضيف، وذو أريحية واهتزاز.
وإذا قالوا: هو عبوس، وهو كالح، وهو قطوب، وهو شتيم المحيا، وهو مكفهر أبداً، وهو كريه، ومقبض الوجه، وحامض الوجه؛ وكأنما وجهه بالخل منضوح! وللمزح موضع، وله مقدار، متى جازها أحد، وقصر عنهما أحد، صار الفاضل خطلاً، والتقصير نقصاً.
فالناس لم يعيبوا الضحك إلا بقدر، ولم يعيبوا المزح إلا بقدر.
ومتى أريد بالمزح النفع، وبالضحك الشيء الذي له جعل الضحك، صار المزح جداً، والضحك وقاراً.
وهذا كتاب لا أغرك منه، ولا أستر عنك عيبه. لأنه لا يجوز أن يكمل لما تريده، ولا يجوز أن يوفى حقه كما ينبغي له: لأن هاهنا أحاديث كثيرة متى أطلعنا منها حرفاً عرف أصحابها، وإن لم نسمهم، ولم نرد ذلك بهم. وسواء سميناهم أو ذكرنا ما يدل على أسمائهم. منهم الصديق والولي والمستور والمتجمل. وليس يفي حسن الفائدة لكم بقبح الجناية عليهم. فهذا باب يسقط البتة، ويختل به الكتاب لا محالة. وهو أكثرها باباً، وأعجبها منك موقعاً - وأحاديث أخر ليس لها شهرة؛ ولو شهرت لما كان فيها دليل على أربابها، ولا هي مفيدة أصحابها.
وليس يتوفر أبداً حسنها إلا بأن تعرف أهلها، وحتى تتصل بمستحقها، وبمعادنها واللائقين بها. وفي قطع ما بينها وبين عناصرها ومعانيها سقوط نصف الملحة، وذهاب شطر النادرة.
ولو أن رجلاً ألزق نادرة بأبي الحارث جمين، والهيثم بن مطهر، وبمزيد، وابن الأحمر، ثم كانت باردة، لجرت على أحسن ما يكون. ولو ولد نادرة حارة في نفسها، مليحة في معناها، ثم أضافها إلى صالح بن حنين، وإلى ابن النواء، وإلى بعض البغضاء، لعادت باردة، ولصارت فاترة، فإن الفاتر شر من البارد.
وكما أنك لو ولدت كلاماً في الزهد، وموعظة للناس، ثم قلت: هذا من كلام بكر بن عبد الله المزني، وعامر بن عبد قيس العنبري، ومورق العجلي، ويزيد الرقاشي، لتضاعف حسنه، ولأحدث له ذلك النسب نضارة ورفعة لم تكن له. ولو قلت: قالها أبو كعب الصوفي، أو عبد المؤمن، أو أبي نواس الشاعر، أو حسين الخليع، لما كان لها إلا مالها في نفسها. وبالحرى أن تغلط في مقدارها، فتبخس من حقها.
وقد كتبنا لك أحاديث كثيرة مضافة إلى أربابها، وأحاديث كثيرة غير مضافة إلى أربابها؛ إما بالخوف منهم، وإما بالإكرام لهم. ولو لا أنك سألتني هذا الكتاب لما تكلفته، ولما وضعت كلامي موضع الضيم والنقمة. فإن كانت لائمة أو عجز فعليك، وإن عذر فلي دونك.
رسالة سهل بن هارون
أبي محمد بن راهبون، إلى عمه من آل راهبون، حين ذموا مذهبه في البخل، وتتبعوا كلامه في الكتب: بسم الله الرحمن الرحيم أصلح الله أمركم، وجمع شملكم، وعلمكم الخير، وجعلكم من أهله! قال الأحنف بن قيس: يا معشر بني تميم، لا تسرعوا إلى الفتنة، فإن أسرع الناس إلى القتال، أقلهم حياء من الفرار. وقد كانوا يقولون: إذا أردت أن ترى العيوب جمة فتأمل عياباً، فإنه يعيب بفضل ما فيه من العيب. وأول العيب أن تعيب ما ليس بعيب. وقبيح أن تنهى عن مرشد، أو تغري بمشفق.
وما أردنا بما قلنا إلا هدايتكم وتقويمكم، وإلا إصلاح فسادكم، وإبقاء النعمة عليكم ولئن أخطأنا سبيل إرشادكم، فما أخطأنا سبيل حسن النية فيما بيننا وبينكم.