"ما معنى هذه الحياة?".
ينخر هذا السؤال كالسوس في نفس حسين فرغلي كل ليلة وهو خارج من القهوة بعد أن كوموا مقاعده وأطفأوا أنواره يخف إليه قبل الغروب, فيجد زملاءه المدرسين قد اجتمعوا حول "الطاولة" ويدور اللعب بينهم - لا ينقطع لحظة واحدة - كالمعارك الحربية في غليانها وقعقعتها. يتساقى اللاعبون كؤوسًا مترعة من رحيق الفوز ومرارة الهزيمة, فينهلون من وهمها ويسكرون. حسين لا يلعب بل يكتفي بتتبع الحجارة والزهر بشغف كبير. يلتوي رأسه ذات اليمين وذات اليسار, كعروس ميكانيكية انفلت ضابطها. وهكذا هو أيضًا في الحياة يعيش على هامشها, ويلوذ بالشاطئ خوفًا من تيارها. عواطفه موزعة, تارة مع الغالب, وتارة مع المغلوب. فالمحايد المحروم من لذة المشاركة في الصراع يتسلى بمقدرته على الموازنة بالعدل والقصاص. إذا دار الحديث فعن العمل والوظائف والدرجات, حتى كأنهم الإبل, يجترون بالليل ما أكلوه بالنهار. أيّ عقل شيطاني تفتّقت حيلته عن اختراع هذه "الطاولة"? هي لعبة ساذجة متشابهة متكررة, ومع ذلك لا ينقطع سحرها (...).
خرج حسين من الجو المكتوم المفعم بالأدخنة والضجيج, وانطلق إلى الطريق. فوقه سماء القاهرة تكاد الروح ترشفها من فرح صفائها. تناثرت فيها نجوم لامعة وأخرى خابية, لا يكاد النظر يستوعبها في مواقعها, حتى تجد الأذن أن هذه النجوم المبعثرة مختلفات الألوان ينظمها نغم حلو جميل. لكل لون منها نصيب في إيقاعه, ولكنه نغم خاف تشعر به الأذن ولا تتبيّنهُ, كأنما هي أيضًا عين ترى ولا تسمع. وبدأ حسين سيره إلى "شبرا"? وهو حين يشعر بالليل يحجبه عن الأنظار, يلذ له أن يحتضن أفكاره ويختلي بها, فيسرح ذهنه, وتعود إليه ذكريات قديمة. عيناه تتكلمان تارة بالسرور وتارة بالحزن. ويهتز رأسه مرة بالعجب ومرة بالحسرة. وقد يتمتم باسمًا. (...)
آه إنه الليلة آسف على حياته, نادم من جديد. أما يأتي اليوم الذي يتاح له فيه أن ينسى كيف ألقى بنفسه في مدرسة المعلمين وهو كاره لها? وكيف نكص عن الزواج بجارته آمال! تلك الفتاة التي خلبت لبه وسحرته, ورضي بالزواج من إحسان. خشي الأولى لأنها مستبدة لعوب فاتنة, وقنع بالثانية لا عن حب, بل قيامًا بواجب, فهي ابنة عمه. اطمأن لها لأنها ربة بيت, هادئة, معتكفة, فماذا فعلت بنفسك يا حسين? أدرت ظهرك للنشوة والمتعة, واللذة المتجددة, والحياة المليئة بالعواطف, وآثرت حياة راكدة كالمستنقع. سرعان ما مل إحسان, وسرعان ما انقلبت هذه الفتاة الممشوقة القد إلى امرأة بدينة خشنة اليدين. لم يرها مرة تستقبله عند عودته وقد سرحت شعرها أو اعتنت بزينتها. تبدو له الآن حياته سلسلة من أخطاء وسوء حظ. إن كان في الحياة مهنة يمقتها أشد المشقت فهي مهنة التدريس. هو عامل فرض عليه أن يبني الأساس ولا يتعداه, ثم يجيء آخرون يتممون البناء ويتمتعون به. أي لذة في عمل لا تتجسم أمامك نتائجه, فتمنح النفس جزاءها من الرضا والغبطة!?
ما فائدة التوفر على تعهد فرخ الطيور وتغذيته, حتى إذا نما ريشه أفلت من يدك وطار? العالم كله يتحرك إلى الأمام, والمدرس ثابت في مكانه! وإن تلفّتَ فإلى الماضي يتلفت. ما فائدة تعليم هؤلاء الصبية, وهو واثق بعجزه عن إسعادهم? فالحياة مليئة بالشراك والمصائد, محفوفة بالمظالم والآلام والأحزان. سيخوضون غمار معركة من أشد المعارك تطاحنًا وهَولاً, على حين أنه لم يسلحهم إلاّ بقشور من العلوم النظرية. وشقشقة لسان إن لم تكن تضر فهي لا تنفع. كم كان يود أن يكون محاميًا. إنه يحس في نفسه المقدرة على الفهم واستخلاص المبادئ وسلامة المنطق. - وهذه مواهب لا تفيده في صناعة التعليم. ولكنها خليقة بأن تتقدم به إلى الصفوف الأولى, لو أنه مارس المحاماة. ودّ حسين لو أنه استطاع أن يدافع يومًا عن مظلوم, أو يرد حقًّا إلى صاحبه, ولكنه عاجز. فمما يكرب نفسه أنه يرى المظالم تتزايد أمامه وتتلاحق, ولا أمل له في أن يرى نهايتها, أو يرى عالمًا تسوده العدالة. هذا تفسير ما في نظرته من حزن عميق مختلط بغيظ مكتوم. ماذا يفعل? إنه يقف طول النهار ينبح أمام تلاميذ كالقرود يلهون ويعبثون, حتى يجف حلقه ويضطرب قلبه. هل نسي أن الطبيب قال له إن قلبك ضعيف يُخشى عليه من كثرة الإجهاد?
وعندئذ تريث حسين في سيره, ووضع يده على مكان قلبه وتأوه... إنه يحس كأن إبرة تغرز فيه... لقد ساءت حالته الليلة. إنه الإجهاد الذي يخشاه.. فمتى تأتي الإجازة? متى?
كان قد ترك الطريق الرئيسي وانعرج إلى درب ضيق ينتهي بالمزارع. سكون شامل ومنازل نائمة.
حدثته نفسه:
- لو أستطيع أن أرتد القهقري عشر سنوات. عشر سنوات وحسب, ولو ضحيت من أجل ذلك بعشر سنوات مثلها من مستقبل عمري. سنة بسنة.
لم يكد يسير بضع خطوات بعد هذا الخاطر, حتى خيل إليه أنه يسمع زحيرًا شديدًا يتلاحق من ورائه. هل يجري في إثره أحد? أجهد أذنيه فلم يسمع وقع أقدام. ومع ذلك استمر هذا الزحير يسرع إليه ويدنو منه. طمأن نفسه يقول لها: لعله وهم وخيال. فالليل عالم مجهول مليء بأصوات غريبة لانتبينها, ثم سار قليلاً فإذا يد تلمس كتفه, والزحير يكاد يشق صماخ أذنيه. سمع حسين وقرأ أن شعر الرأس يقف عند الذعر, ولم يكن يصدق, في تلك اللحظة أحس كأن يدًا قاسية جمعت شعره في قبضتها وشدته شدًّا قويًّا يكاد يتمزق منه جلد رأسه. وشعر حسين بأن اليد التي وقعت على كتفه لوح من الثلج. فقد جمد لها قلبه, وإن يكن جبينه قد التهب لها وتصبب عرقًا.
التفت حسين مذعورًا, فوجد وراءه رجلاً نحيفًا هو إلى القصر أدنى منه إلى الطول. يرتدي ثوبًا أسود كثياب التشريفات, من طراز يرجع إلى عهد غابر, ذَكَّر حسينًا بصورة قديمة لأحد جدوده.. والغريب أن هذا الثوب كان فضفاضًا كأنما فصل لرجل أطول منه وأشد امتلاء; فقد رأى حسين أمامه رقبة نحيلة تائهة في ياقة مُنشّاةٍ واسعة... يريد ذقنه أن يعتمد على حافتها فيشنقها فرط ارتفاعها... لم ير له يدين, وخيل إليه أن الكمّين فارغان, ليس فيهما ذراعان. حدق بنظره في تقاطيع هذا الغريب. ورأى - أو خيل إليه أنه رأى - وجهًا إنسانيًّا ذا عينين وأنف وأذنين... ولكن عجبًا لماذا لا تستقر نظرته على هذا الوجه? لم تنطبع له صورة في ذهنه, كأنما وجهه هُوّةٌ لولبية, أو سراديب ملتوية أو صورة فوتوغرافية مهزوزة.
أشاح حسين بوجهه من الرعب, ومن تلك الرائحة المنتنة القاسية التي غمرت وجهه من فم هذا الغريب. وحين بدأ الرجل يكلّمهُ, إذا بصوتهِ صوتُ طفل وديع, وإذا بهذا الصوتِ الحنون وحده يراخي قبضة اليد التي كانت تجذب شعره فيعود إلى رقاده. وخامر قلبه شيء من الطمأنينة لم يدرِ سببها. قال له الرجل:
- لا مؤاخذة ياسي حسين... خشيت أن تغير فكرك قبل أن أستطيع اللحاق بك. كنت مشغولاً جدًّا في قصر العيني وفي مستشفى الحميات.. فأنا - كما ترى - مجهد حقًّا ولي عمل شاق لا ينتهي. سمعتك تتبرع بعشر سنوات من عمرك لقاء أن تعود القهقرى عشر سنوات مثلها, وأنا في ضيق- علم الله - ومحتاج أشد الاحتياج إلى يوم, فكيف بعشر سنوات مرة واحدة.
- لا شك في أنك سعيد في حياتك. فلم أر قبلك أحدًا يتعلق بالدنيا تعلقك بها.. - لا. لا. لا أريدها لنفسي, بل لغيري.. دعني أتذكر. نعم عندي أب قارب الرحيل, وقد قدر له أن يرى ابنه الوحيد الشاب يموت قبله. سأعطي الابن شيئًا من هبتك حتى أجنب أباه تجرع غصة الألم. وهذا الشاب لو انتقل عن هذه الدنيا لحرم أولاده من ميراث جدهم. سأعطيه سنة حتى ينتهي أجل أبيه. وهذا الفتى أحب فتاة غاية الحب, سيموت قبل الزفاف - وليس أشهي على من أن أمتعه بها ولو شهرًا واحدًا. فها أنت ذا ترى أن هبتك السخية تكفي لبعض هذه الأعمال الخيرية. لهذا أسرعت إليك.
خفّت الأبخرة المنتنة شيئًا فشيئًا, واستطاع حسين أن يقارب وجه هذا الغريب, بل بلغ به الاطمئنان أن ضحك في وجهه وقال:
- مهلاً! مهلاً! هذه هبة كما قلت, ولكنها - يا عزيزي الأستاذ - ليست بدون مقابل... فهل أنت قادر على أن تردني القهقري عشر سنوات?
انتبه حسين إلى أن جوا من الطيب والرائحة الزكية تسطع من مخاطبه, وتمني لو استطاع أن يقترب منه أو يضع ذراعه في ذراعه.