أجابه الرجل وهو يبتسم:
- ألم تقرأ في القرآن الكريم ادعوني أستجب لكم ? إنني عبد من عباد الله لا أعلم أن أحدًا قد كلف بمهمة شاقة كمهمتي... وأنا مقبل على أدائها بإخلاص وبكل قوتي.. حرصًا على رضا مولاي... وإني, لحسن الظن بكرمه ومَنّه, لم ألتمس منه طلبًا من قبل, فلا أظن أنه يخيب رجائي لو سألته هذه المرة. كن واثقًا بأنني أحقق لك ما ترجوه...
ودّ حسين لو أنه تردد قليلاً, أو سأله مهلة ليفكر من جديد, ولكنه خجل من رقة محدثه, فوجد نفسه يقول له وهو ذاهل..
- لا مانع عندي...
- يا لك من سخي شجاع...
وعندئذ أخرج حسين ساعته ونظر إليها فأوقفه الرجل قائلاً:
- لا. لا. إنني لا أعرف حساب زمنكم هذا...
ثم التفت إلى السماء ونظر إلى النجوم وقال:
- سيكون بدء تنفيذ اتفاقنا في تمام منتصف الليل.
قال له حسين:
- اتفقنا...
أجابه الرجل:
- هذا القول لا يكفيني... إنني أريد منك أن تهبني السنوات العشر بالصيغة الشرعية. فقل معي:
"أهبك عشر سنوات من عمري طائعًا مختارًا, وأنا في تمام عقلي وإرادتي, على أن أعود القهقرى عشر سنوات مثلها".
كرر حسين وراءه الصيغة كلمة كلمة... فإذا بالرجل يربت كتفه ويقول:
- إنك أكبر المحسنين لو علمت. وليس أحد أولى منك بأن يقام له تمثال.
ثم ابتعد عنه, يتحرك جسده, ولا يرى حسين على أي قدمين يسير.
واستمرحسين في طريقه وهو ثمل لا يدري هل يغتبط بفعلته أم يندم عليها. همس لنفسه يقول: "إنك أسعد إنسان على وجه الأرض! ستقوم برحلة لم تتسنّ لأحدٍ من قبلك".
وفجأة وقف حائرًا وقال:
- ولكني نسيت أن أسأله: هل سأعود القهقرى عشر سنوات محتفظًا بما فيّ من تجارب وأفكار ومن خبرة ومزاج?... ليتني أدخلت هذا الشرط في اتفاقنا!
عشر سنوات إلى الوراء! سيغير حياته كلها... سينعم بما حرم نفسه منه... سيتجنب كل أخطائه. تألق وجهه وأسرعت خطواته, وأحس أن نشوة غريبة تهز عِطْفَيْه.. فإذا به يقف من جديد وقد ساوره شيء من القلق:
- ليتني سألته كم يبقي لي من العمر بعد تبرعي بعشر سنوات?
كان قد وصل إلى داره وفتح باب الشقة, فإذا رائحة المرحاض تزكم أنفه مختلطة بعفونة قشور البصل المتخلف في صفيحة القمامة.
اعتاد حسين, إذا عاد في مثل هذه الساعة, أن يجد شيئًا من الطعام على المائدة فيتناوله باردًا وهو صامت, وزوجته نائمة لا تتحرك... ولكنه في هذه المرة لم يكد يدخل حتى سمع صوت إحسان تنادي:
- من? حسين?
وقامت إليه محمرة العينين, مشعثة الشعر تقول:
- عجبًا! ما كدت تدخل حتى طار النوم من عيني وانتبهت مذعورة لا أدري ماذا بي.
جلست معه على المائدة وسخنت له طعامًا, وحدثته عن بعض توافه يومها, ومع ذلك كان كلامها ينزل بردًا وسلامًا على قلبه. هي زوجه, وليس في حياتها أحد سواه. حبيسة داره, حياتها كلها وقف عليه وعلى أولاده. كثيرًا ما اشتكت وثارت وضجت, ولكنه لم يسمعها تؤلمه بكلمة تجرح قلبه. حنّ لها حسين وضاحكها, بل عرض عليها أن يسهرا معًا ويتسليا بلعب الكونكان, وهي لعبة الورق الوحيدة التي استطاع أن يعلمها لإحسان.
واستمر اللعب زمنًا طويلاً, وتناول حسين ورقة يربح بها الدور, فرفع يده مسرورًا يقول:
- كُنْ...
ولكنه لم يستطع أن يتمها "كونكان"! كان الليل قد انتصف... ... ...
***
دخل عليه وكيل المكتب يقول:
- السمسار منتظر يريد أجره.
أطرق حسين برأسه ذليلاً. لقد انحدرت به الحال إلى أن أطلق بعض السماسرة يتصيدون له الزبائن من على القهاوي. لم يبلغ إيراده في هذا الشهر عشرين جنيهًا, وإنه والله ليخشى أن يعود إلى داره, فقد طالبته آمال بثوب جديد لا يقدر عليه. من كان يظن أن فتنة هذه الفتاة ستزول سريعًا? عاشرها وتمتع بقربها, ولكنه يشعر بأنه ظل طول عمره غريبًا عنها. لا يدري ما يجول برأسها. يريد أن يخضعها فلا تخضع, ويأمرها فتنفلت منه طليقة. ثم كم تؤذيه ويؤذيها بهذه الكلمات القاسية الجارحة التي يتبادلانها كثيرًا. ثم - وهنا العجب - يضُمُّهما الفراش فينسيان كل شيء في ضمة الجسد للجسد. وتعود العداوة والبغضاء في الصباح. طبيعة حيوانية يتعامي الإنسان عنها