أسمعها تقول: "أنت يا هذا الذي سعدت بالحب, قم! إنما العيد لك!" مهلاً أيها الطير! إنك تعيش ملء لحظتك للحظتك, بَيْدَ أن نفسي تتوقع عند الصباح قدوم المساء.
***
ودّعت القاهرة عهدَ السلام, فأطفأت أنوارها, وفاضت كالقدح أترعته يد مرتعشة لسكير زائغ البصر. واكتظت طرقاتها بأغراب ومهاجرين ونازحين من ملل ونحل شتى, لم يبق موضع لقدم في ترام, أو في سيارة أو في ملهى, رأيت الكثيرين في هذا الزحام كالأسرى, على وجوههم علامات التأفف والكرب والاختناق, يودون الخلاص. فلا شيء يضيق به الإنسان ضيقه بقرب أخيه الإنسان. أما أنت فكنت في الزحام كالسمكة في الماء, تطبق عليك الجموع, ثم تنكشف وتطبق, وأنت ناعمة البال قريرة العين, بل كنت أجمل ما تكونين وأنت رافعة الرأس في الزحام, تتلاطم أمواج البَشر حول منارتك. ما سمعتك تشكين أو تتأففين. ما زاد تلفتك ولا ضجرت نظرتك, بل كنت مرحة كأنك في مهرجان... وكما رأيتك سعيدة بالحياة رأيت الحياة سعيدة بك.
***
يوم أن خرجنا من متجر الأزياء قبيل الغروب وأنت تقولين:
- ... أعجبني الثوب لولا أزراره.
ودوّت صفارة الإنذار, وهاج الخلق وماج. هل تذكرين كيف رأينا لابسي الجلابيب والحفاة هازئين, والموسرين هاربين? رأينا شبابًا في شرخ الصبا غير عابئين, وشيوخًا على حافة القبر زايلهم كساحهم فهم يجرون إلى المخابئ نشطين.
وقفت مكانك وتلفتِّ يمنة ويسرة, ثم قلتِ:
- أنا خائفة!
أخذتكِ إلى أول بناء لقيناه, وجلسنا مع بوابه النوبي كأن ثلاثتنا من أسرة واحدة لم تفترق طول الحياة.
ولما ضجت السماء بأزيز الطائرات, واشتعلت بلهيب المدافع وانفجار القنابل. ولما اهتزت النوافذ والأبواب, وعلا الصراخ, امتقع لونك, وعرقت يدك وطال صمتك.
ثم هتفت الصفارة بالأمان, فقمت واقفة, ووضعت ذراعك في ذراعي وخرجنا, وكان أول حديثك:
- ... لأن طرف الزر الأوسط على الكم اليمين شبه مخدوش.
***
تنقلت بعدك بين نساء كثيرات. لم أزد مع كل منهن عن لقاء واحد, وفيهن من هي أجمل منك وأشد سحرًا, ثم أفرّ ولا أعود, لماذا? أللحسرة? لا. فأنا أعلم أن اختفاءك قد أذابك في يمّ الحياة, وهيهات أن تعودي, ولو عدتِ لعدتِ غير ما كنت.. أللغيرة? هل تخشى روحي أن تكون كل امرأة جديدة بين ذراعي رجلاً جديدًا أنت إذ ذاك بين ذراعيه? قد يكون هذا, ولكن هل لي أن أصارحك? إنني أفرّ ضنًّا بنفسي على غيرك? فهذا الذي تحسبينه في انمحاء هو غاية الكبرياء والاعتزاز. هو الحبّ!
***
أحببت قبلك اثنتين: واحدةً ثم أخرى. كم أقسمت صادقًا بين أيديهما أحرّ الأيمان على الوفاء والإخلاص حتى الموت. ثم افترقنا. وهدأت. ولم أعد أذكر شيئًا. غير أني كنت في غيبوبة النشوة أنادي الأولى بين ذراعي الثانية, وكم فاجأت شفتيّ تتمتمان باسمٍ دفين وأنت بين ذراعي لا تشعرين, فهل الذي جرى عليهما سيجري عليك أنتِ أيضًا? إن الزمن يلح عليّ بالخلاص فأعصيه, والمنطق يسخر مني فأسخر منه, والحياة تتشبث بتلابيبي فأتملص من قبضتها وأفرّ. ولكن هل أقوى على مغالبة كل هؤلاء الخصوم مجتمعين? سأنساك! سأنساك! ولكن هيهات لي أن أنسى أنني نسيتك.
***
الآن بعد اختفائك, أقول وأنا وجل: هل أحببتها لأنها ذكرتني بمن مضى? أفي نظرتك أم في صوتك أم في سذاجتك لقيت مَن خِلتُ أنني دفنته? ولكن لا! ما فات مات. مات إلى الأبد. ولم نخدع أنفسنا? الذكرى إنما تجر من القبر هيكلاً نخرًا باليًا في لون أغبر وكفن حائل, أجوف قد نُزع منه الكلام. نومئ فلا يفهم, ونشير فلا يفطن. عدم متحجر, قائم ونحن نضطرب وندور, فلا نعرف إقباله من إدباره. إن بصيصًا من نور خافت ينبعث من حي, كاسف جميع الشموس الغاربة! الآن أومن أنني أحببت من سبقك, لأنهما كانتا تشبهانك أنت.
***
يا رب! يا أرحم الراحمين, وسعت رحمتك حنق المهزومين وثورة المحرومين وقد تاهوا في ملكوتك. ما أجهلهم وإن كانوا مؤمنين!
وسعت رحمتك من أضلّتهُ بصيرته, فجحد, وأنكر, وكفر كفر الأعمى بالنور.
وسعت رحمتكَ من ركبه الجهل, وساقته الحماقة فتعالى وأبي السجود, آنفًا من أن يرسف فيما توهم من قيود.
بل وسعت رحمتك من أغدقت عليه من نعمائك, فجدف وتمرد.
لا أقول بمثل قولهم: لماذا خلقت الشر? لماذا برأت الرذيلة? ولكني أسألك يا إلهي: لماذا جعلت الحق على النفس ثقيلاً, والباطل هينًا? لماذا خلقت الفضيلة مملة والرذيلة فاتنة? لماذا خلقت الحب روحًا هائمة لا تخضع لعرف أو لقانون: طيرًا لا يحطّ إلا ليحوم? يفزعه الأمن والسلم والدوام, والحياة عنده وجْد ووَلَه وهيام?
لا يستقر ولا يهدأ, لا تزيده العبرة إلاّ استهتارًا, ولا النصيحة إلاّ عنادًا. لم جعلت السعادة سرابًا والوفاء محالاً, والنيات مقعدةً, والنسيان عداء?!
أنت مطّلع على الضمائر والقلوب, فاعطف اللهم عمن تثاقلت قدماه في الطريق السوى فلم يقوَ على اللحاق بالقافلة تنفصّد عرقًا ومللاً, وانحرف إلى البيداء ضالاًّ يناجي النجوم, وكلّ زاده نجواه لنفسه:
- ما ظنك بالله العلى القدير, الرؤوف الكريم!
***
أجوس بعدك خلال القاهرة, فأعود من أحيائها الأوربية بقلب فاتر كليل, وطعم بين المر والحلو, كفقير يرتد عن زيارة ابنه الغني العاق, وإن عزّ على قلب أبيه. يضيع مني شبحك في الأوبرا وجروبي. وبين شبرد والكونتنتال, فإذا قادتني قدماي إلى سيدنا الحسين ومررت تحت البوابات الهرمة, ووقفت أمام الجوامع العتيقة, هصر الشوق قلبي هصرًا...
فأنت عندي هذا التاريخ.
وإذا ما فاض بي الحنين إليك أبكّر إلى قصر النيل مترقبًا جموع الفلاحات قادمات من الريف, على رؤوسهن سلال الخضر, ثيابهن سود, على أرجلهن الطين, معتدلات القوام, في وجوههن المجهدة عيون صابرة. لا ينقطع تدافعهن, ولا ثرثرتهن. عندئذ ألقاك; فأنت عندي هذا الوطن.
ويغلبني الوله على أمري يوم "طلوع القرافة" حين أتتبع بنظري عربات الفلاحين البطيئة تحمل الأسرة كلها رجالاً ونساء, شيوخًا وأطفالاً, أمامهم "السحّارة" المنحدرة من قبور الفراعنة, يهجرون مدينة الأحياء ليستقبلوا العيد في مدينة الأموات.
فأنت عندي هذا العيد!
***
الآن أذكر, والآن فهمت.
في صباح اليوم الذي اختفيتِ فيه, كنت أجول في خان الخليلي, فنادتني من سجنها الزجاجي مسبحة جميلة وأشارت إليّ أن خذني معك.
تناولتها بودّ, وانعقدت بيننا منذ اللمسة الأولى أواصر صداقة وثقت بأنها ستدوم. تساقط حباتها كقطرات الماء على الغدير. حديثها الخافت إلي: عن الألفة بين القلوب في عالم الوحدة, عن الطمأنينة في اللقاء المقسوم وإن طال الغياب, عن الوجل من الفراق المحتوم رغم اللقاء.
عدت بها إلى عشنا, فلم أكد أدخله حتى انقطع من حيث لا أدري خيطها وتناثرت حباتها. أهو نذير, أم شيطان يغار? جثوت على الأرض, وجمعت حبّاتها, وعددتها فإذا هي تنقص حبّة. دسست يدي, ونبشت بأظافري تحت المقاعد والسجاد. ولكن عبثًا! فحزنت وأسفتُ.
قد تسألين: أكلّ هذا العناء من أجل حبّة واحدة صغيرة, وفي يدك منها عشرات?
فأجيبك: هكذا مسبحتي! لا يحيا جمالها إلاّ بهذه الحبة الواحدة الصغيرة.. التائهة