قبضة العدو
بكل لهفة وحماس الدنيا، قفز زعيم المتحورين من عرشه الضخم، ولوَّح بقبضته في الهواء، صارخاً:
- لقد سقط أخيراً.
كانت الشاشة تنقل مشهد الفارس الشاب، وجواده المجنّح، وهما يسقطان على أرض الوادي الأزرق، تحيط بهما تلك الشبكة المعدنية الهائلة، على نحو يستحيل الإفلات منه، بأي حال من الأحوال..
وفي انبهار تام، راح قائد الأمن يلهث انفعالاً، وهو يهتف:
- أخيراً أيها الزعيم.. أخيراً.
ضغط الزعيم زر الاتصال برجاله، في حماس وحشي، وهو يهتف:
- لا تقتربوا منه، ولا تحاولوا الإمساك به، مهما بدا هذا ممكناً أو مغرياً.. أحيطوا به فحسب، وأطلقوا عليه أسطوانات الغاز، التي زودتكم بها.. ومن مسافة آمنة..
ارتفع حاجبا قائد الأمن، وهو يتمتم:
- أسطوانات غاز؟!.. إنك لم..
استدار إليه الزعيم، بنظرة غاضبة وحشية، فتوقفت الكلمات في حلقه، وتراجع في شيء من الذعر، فعاد الزعيم ببصره وأفكاره إلى زر الاتصال، وهو يهتف:
- أكرر.. لا تحاولوا الاحتكاك به مباشرة.. أبداً.. هذا أمر..
لم يلتقط الفارس الشاب هذه الأوامر، التي تم بثها على موجة جديدة تماماً، ذات تردُّد خاص جداً، ولكنه كان يشعر بشيء من الذعر، لم يشعر بمثله قط، منذ طارده المتحورون في صباه؛ فلأول مرة، يبدو له أنه قد سقط في قبضة أعدائه..
وفي أول مواجهة منفردة له..
وكمحاولة يائسة، راح يضرب تلك الشبكة المعدنية بذراعيه، ويطلق على بعض أجزائها أشعته الليزرية، في حين راح جواده يضرب بقوائمه، ويطلق صهيله الغاضب والمذعور..
ولدقيقة أو يزيد، لم يحاول أحد المتحورين الاقتراب منه قط، بل اكتفوا بمراقبته ومتابعته، من مسافة آمنة، وفقاً لأوامر زعيمهم..
وفي الوقت ذاته، ومع هول الموقف، وعلى الرغم من خسائرهم الفادحة، تسلل بشر الوادي الأزرق إلى مداخل كهوفهم، يطالعون في يأس مرير، سقوط فارسهم، الذي كان يمثل لهم الأمل الوحيد، بـــعــد الله -سبحانه وتعالى- في مواجهة وحوش المدينة الكبيرة ومقاومتهم..
وبعد تلك الدقيقة، وبعد أن أيقن المتحورون أنه لا فكاك للفارس، من الشبكة المعدنية الرهيبة، استعادوا شجاعتهم، وحمل بعضهم أسطوانات الغاز، التي زودهم بها الزعيم سراً، وصوَّبوا فوهاتها نحو الفارس، من مسافة آمنة..
ثم أطلقوا الغاز..
ودفعة واحدة، فوجئ الفارس الشاب بغاز ثقيل، نفاذ الرائحة، يحيط به من كل جانب..
وفي لحظة واحدة، استعاد كل ما لقنه إياه معلمه، وكأنما يحيا لحظاته الأخيرة، والغاز ينتشر..
وينتشر..
وينتشر..
ثم سقط الجواد أوَّلاً..
توقفت مقاومته دفعة واحدة، وتراخى جسده تماماً..
وبعدها بثوان قليلة، تبعه فارسه..
وعلى الرغم من توقف حركتهما، واصل المتحورون ضخ الغاز أكثر..
وأكثر..
وأكثر..
حتى نفدت الأسطوانات تماماً..
وعندئذ.. وعندئذ فقط، توقفوا مضطرين، وإن ظلوا بعيدين عن الفارس والجواد، حتى غمغم الزعيم في مقره بعصبية:
- ماذا ينتظرون؟!
تمتم قائد أمنه:
- إنهم يخشونه.. ما زالوا يخشونه!
التفت إليه الزعيم في غضب، والتهبت عيناه على نحو مخيف، جعل الرجل يستدرك في خوف:
- هذا ما يبدو لي.
وبكل الغضب والثورة، عاد الزعيم يضغط زر الاتصال، صارخاً:
- ماذا تنتظرون؟!
صرخته انتزعتهم من ذعرهم وجمودهم، فاندفعوا يتعاونون؛ لرفع تلك الشبكة المعدنية الهائلة السميكة، والزعيم يتابعهم بمنتهى اللهفة، وهو يتمتم في انفعال، لم يعهده فيه قائد أمنه قط:
- هيا.. هيا..
كان يتابع حركتهم بمنتهى الدقة والاهتمام، حتى أزاحوا الشبكة المعدنية عن جسدي الفارس وجواده تماماً، فغمغم قائد أمنه في حماس:
- ها هو ذا في قبضتنا.. أخيراً.
لم تكد عبارته تكتمل، حتى انتفض الفارس الشاب فجأة، وهو يهتف:
- مفاجأة.. أليس كذلك؟!
ومع انتفاضته، بدا وكأنه المشهد كله قد انتفض..
بل المشاهد كلها..
جنود المتحورين..
وبشر الوادي الأزرق..
وقائد الأمن..
وحتى الزعيم نفسه
الكل انتفض، من فرط المفاجأة، واتسعت عيونهم عن آخرها، فيما عدا زعيم المتحورين، الذي انعقد حاجباه في غضب هادر، وهو يطلق زمجرة وحشية رهيبة..
ومع زمجرته، هب الجواد أيضاً، واقفاً على قوائمه، في نشاط عجيب..
وقبل حتى أن يكتمل نهوضه، كان الفارس الشاب يثب على متنه..
وكانت أجنحته تنفرد بأقصى اتساعها..
وفي لحظة واحدة، كان يحلق في السماء، أمام العيون الذاهلة والمذعورة..
وبكل ذهول وغضب الدنيا، هتف قائد الأمن:
- مستحيل!.. لقد خدعنا جميعاً.. مستحيل!
كتم زعيمه غضبه في صعوبة، وهو يقول في وحشية:
- لست أدري كيف فعلها، ولكن هذه ليست نهاية المطاف.
وقسا صوته على نحو رهيب، وهو يضيف:
- ما زالت هناك خطة احتياطية.
في نفس اللحظة، التي نطق فيها عبارته، كان الفارس الشاب ينطلق على متن جواده المجنح، في سماء الوادي الأزرق، وذهنه يستعيد هذا الموقف الرهيب كله..
مصفاة الغاز الأنيقة الصغيرة، المعدَّلة إليكترونياً، وعبقرية الجواد المجنح، وتدريبه المتقن، كلها ساعدت على تجاوز الأزمة..
ففور شعوره بالغاز، أخرج من حزامه مصفاتين غازيتين إلكترونيتين دقيقتين، تم ابتكارهما وتطويرهما، خلال الحرب النووية الشاملة، ودسهما في فتحتي أنفه بسرعة...
كانت مهمتهما استخلاص الأكسجين وثاني أكسيد الكربون فقط، من أية غازات يستنشقها، ولفترة طويلة من الزمن..
ومن الواضح أنهما قد قاما بعملهما خير قيام..
أما الجواد، فقد درَّبه معلمه، مستغلاً الجزء البشري منه، على كتمان أنفاسه لفترات طويلة جداً، عند شعوره بوجود غاز غريب من حوله، كما أن جيناته المطوّرة تساعده على تحديد أية غازات غير طبيعية في الهواء، حتى ولو بلغت نسبتها واحد إلى كل عشرة آلاف..
العبقرية جاءت في افتعال حالة الغيبوبة، التي أقنعت جنود المتحورين برفع تلك الشبكة الثقيلة عنها، والتي كان من المستحيل أن ينجحا في رفعها وحدهما، من موقعهما فيها..
ولقد استوعب عندئذ الموقف كله..
فالأمر هو خدعة كبيرة منذ البداية..
خدعة وحشية، تعتمد على افتعال إبادة بشر الوادي الأزرق، بكل هذا العنف وكل هذه القسوة؛ لجذبه إلى ساحة القتال، وإيقاعه في هذا الفخ الرهيب..
السؤال الآن هو ما الذي سيفعله هؤلاء المتوحشون، بعد أن فشلت خطتهم؟!
هل سيواصلون عملية الإبادة الوحشية، أم يكتفون بمطاردته، باعتباره الهدف الرئيسي والأساسي، للعملية كلها؟!
وثب السؤال إلى ذهنه، وهو يرتفع بجواده المجنح..
ويرتفع..
ويرتفع..
ولكن الحوامات العشر بقيت ثابتة في مكانها، تصنع تلك الدائرة الوهمية الواسعة، التي تحيط بالوادي كله..
وبكل التحفز، استعد الفارس الشاب لمواجهة أية شبكة أخرى، قد تطلقها الحوامات، على غرار الشبكة الأولى..
وفي ذهنه، رسم المسار الجديد لانطلاقته؛ حتى يمكنه أن يتجاوز سقوط أية شبكة أخرى، و…
ولكن الحوامات العشر أطلقت مفاجأتها الأخيرة بغتة..
وكانت مفاجأة قوية بحق..
ومختلفة تماماً..
ففي لحظة واحدة، وبتوجيه إليكتروني رقمي دقيق، أطلقت كلها شحنة كهربية محدودة، نحو الفارس والجواد..
وبسرعة انتقال الشحنة الكهربية في الهواء، شعر الفارس وجواده المجنح بالصدمة..
صدمة مباغتة وبالغة العنف، ارتج لها جسداهما في قوة، وتجمدت بها أطرافهما، على نحو استحال معه أن يخفق الجناحان الكبيران..
لذا فقد هويا..
هوى الفارس الشاب، والجواد المجنَّح، كحجرين صلبين، من ارتفاع كبير، نحو وسادة هائلة، فردها جنود المتحورين، في قلب الوادي الأزرق، تنفيذاً للخطة الاحتياطية، التي أمر بها الزعيم الوحشي..
هويا في قبضة عدو لا يرحم..
أبداً.
* * *