خرجـت يوماً متـجهـاً قاصداً عملي في الصباح الباكر وعندما كنت في طريقي رأيت طفلاً صغيراً يلُّـوح بيـدهـ للسيارات لتقف له لكي تحمله إلى المدرسة وقد كان يحملُ بين يديه كتبْه الكثيرة على تلك اليدان الصغيرتان وكنت مسرعاً ولكني لما رأيت منظرهـُ بعد أنْ اجتزتهُ قررت أن أحملهُ معي ، هل تدرون مالذي شدّني وجعلني أقف..!! لقد رأيت ماأحزنني رأيتُ طفلاً لم يتجاوز عمرهـُ الحادية عشرةَ سنـة يحمل بين يديه دروس علمه ويلبس على جسمه ثوباً بنيَّ اللون قديم يرى عليه آثار الغبار والوسـخ وعـدم الإهتمام ، ويلبس على رأسـه طاقية وشكله في قمة الفوضى ، توقفت وعدتُ بسيارتي إلى الخلف لأني كنتُ قد أتيت به مسرعاً!!
أنا أعودُ بسيارتي وهو يركض فرحاً إليَّ وكأني أنقذته من الموت ولما وصل فتح الباب فقلت له : اركب وبكل هدوءْ ركب وكان يعلو وجهه ابتسامـة ُ حزنٍ وشكلهُ لم ينم من أمر قد أهمّـه ، ركب وطأطأ رأسهُ من دون أن يكلمني ولم ينظر لي فحركت سيارتي وبدأت كعادتي في طرح الأسئلة وكان أول سؤال وجهته له : أين تريدُ الذهآب؟ فقال لي أريدُ الذهاب إلى القرية الفلانية وكانت تلك القرية بعيدة جداً على طالبٍ صغيرٍ مثله فلا يمكن أن يصل إليها إلا بعد إنتهاء على الأقل الحصة الأولى ، فقلت له وأنا قد أحترت في قوله ، ومالذي جعلك تقوم بالدراسة في ذلك المكان البعيد وأنت في مكان تكثر فيه المدارس فلماذا ابتعدت وأنت لاتملك حتى وسيلة نقل ؟ فرَدَّ عليَّ وقال: إن في تلك القرية يكثر أصحابي وأقربائي وأحبابي ؟ ثم أمعنت النظر أليه فإذا به ينحدر رأسُـه إلى أسفل وشفتاه ترتجفان وإذا بتلك الدمعة تسقط على وجنتيه ! آه كم تمنيت أن أستطيع في تلك اللحظة أن أمسح تلك الدمعة البريئة بيدي لكني تمالكت نفسي وقررت أن أبث بداخل ذلك الجسد روح الحماس والثقة بالله جلّ و عز ، فقلت هوّن عليك يابني وقلَّ بربك ماهو خبرُكْ ، فقال لي ياعمّ: قلت أنا أسمعك قل ، قال: أنا بصراحة لن أذهب لمدرستي هذا اليوم وأنا كنتُ أكذب عليك في قولي بأن مدرستي في تلك القرية فأنا أدرسُ هنا ولكني إشتقت إلى لقاء حبيبٍ لي في تلك القرية وقررت زيارتهُ في هذا اليوم وسوف أقول لمدرستي غداً أني كنتُ مريضاً أو أي شيء ولا يهمني ماذا سيكون عقابي فأنا لابد أن أرى ذلك الإنسان فقد إشتقت إليه كثيراً كثيراً وأنا لا أستطيع أن أصبر عنه..؟!! ثم طأطأ رأسهُ ورجفت شفتاهـ وسكتْ في منظرٍ في قمة الحزن والألم ، فوقفت وأنا لا أدري مالذي أصابني ونظرت إليه تكاد دمعتي أن تسقط مني قبل الكلام ، وقلت : هلّا أخبرتني بربّـك من هذا الحبيب الذي أشغلَ طفلٌ مثلك وفي هذا السنّ ، قال نعم سأقول لك فكانت قاصمة الظهر ، قال لي وهو يتمتم الكلآم إنها أمي نعم إنها أمي فقلت له كيف ألا تسكن معها ، قال : لا ، قلت ولما ، قال : لقد طلقها أبي منذ فترة وأنا أهربُ أحياناً من مدرستي لكي أراها ثمّ أعودُ وأبي لا يدري بذلك ، فقلت لهُ محاولاً أن أطببّ جراحـهُ لا تخف ستعود فأبوكَ لن يستغني عنها فبينهم عشرة طويلة حتى لو كان ذلك من أجلك والله يابنيَّ يقول {{ وَلاْ تنسُوا الفضل بينكم }} وأبوك لن ينسى سيعيدها أنا أعلم ذلك فإذا به يقول : ولكنه تزوج ولم يعد يبالي بأحدٍ إلا بنفسه ، وأنا أعيش ضحيه للقرار الذي إتخذه أبي دون أن يحسب لشعوري وحبي لوالدتي أي حساب وإذا بي أصل إلى المكان الذي لابد أن أفارقـهُ فيه فوقفت ونظرت إليه وقلت له : مع سلآمـة الله يابنيَّ فأنا لن أستطيع أن أكمل طريقي معك فطريقك غير طريقي وأنا مستعجل فاسمح لي وسامحني وأبشر فسيجعل الله بعد عسرٍ يسرا ، وأنا أقول هذا الكلآم وفي نفسي حسرة وحزن وألم ، وفتح الباب ونزل وقال لي : أستودعك الله ياعمّ وشكراً جزيلاً لك ... آآآه كم تأثرت من هذا الموقف وكم كنت أتمنى أن يسعفني الوقت لكي أذهب به إلى هناك حيث تسكن تلك الأم التي يعتصر قلبها ألم على فراق صغيرها ما الذي يحدث داخل مجتمعاتنا كل يوم نسمع عن قصة دمار للأسرة والأبناء تتفطر منها القلوب وتقشعر منها الجلود ..
لم أستطع أنْ أكمل معه مابدأته ولكني أستطيع أن ارسل رسالة لكل أبٍ وأم أقول لهم فيها اتقو الله وكونوا كشعرة معاوية إن شدت الأم فليرخي الأب وإن غضب الأب فلتهدأ الأم وتعاونوا على لم الشمل ولا تكونوا سبباً في ضياع أبنائكم فقد قال نبينا وحبيبنا محمد صلّى الله عليه وسلّم : " وكفا بالمرء إثماً أنْ يضيّـع من يعول "