الفصل السابع
في التفكّر
قال تعالى: {أَوَلَمْ يَنظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ} [الأعراف: 185].
وقال تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُولِي الأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} [آل عمران: 190 - 191] من النص الثاني ندرك أن كمال العقل لا يكون إلا باجتماع الذكر والفكر للإِنسان، فإذا ما عرفنا أنَّ كمال اللب هو كمال الإنسان أدركنا محل الذكر والفكر في تزكية النفس، ولذلك فقد حرص أهل السلوك إلى الله أن يجتمع للسالك في أول سيره ذكر مع فكر، كأنْ يتفكر في الأشياء وهو يسبّح الله أو يحمده أو يكبره أو يوحِّده، وقد عرض الغزالي في "إحيائه" صورة لكيفية التفكّر في خلق الله، فلو أن القارئ يحاول بعد أن يقرأ فقرة من فقرات هذا البحث أن يتأمّل ما ذكر مستصحباً مع الفكر التسبيح والتحميد والتكبير والتهليل فإنه سيرى آثار ذلك مباشرة على قلبه، فيدرك آثار التفكر على القلب والنفس.
إن الذكر والفكر يعمقان معرفة الله في القلب وهو البداية لكل زكاة فلذا عرض الغزالي لكيفية التفكر في خلق الله وأسهب فيها، قال رحمه الله:
بيان كيفية التفكر في خلق الله تعالى
اعلم أن كل ما في الوجود مما سوى الله تعالى فهو فعلُ الله وخلقهُ، وكل ذرة من الذرات من جوهر وعرض وصفة وموصوف فيها عجائب وغرائب تظهر بها حكمة الله وقدرته وجلاله وعظمته، وإحصاء ذلك غير ممكن لأنه لو كان البحر مداداً لذلك لنفد البحر قبل أن ينفد عشر عشيره.
وقد ورد القرآن بالحث على التفكر في هذه الآيات كما قال الله تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُولِي الأَلْبَابِ} [آل عمران: 190] وكما قال تعالى: {ومن آياته} من أول القرآن إلى آخره. فلنذكر كيفية التفكر في بعض الآيات.
(فَمِنْ آياته) الإِنسانُ المخلوق من النطفة - وأقربُ شيء إليك نَفْسُكَ - وفيكَ من العجائب الدالة على عظمة الله تعالى ما تنقضي الأعمار في الوقوف على عشر عشيره وأنت غافل عنه. فيا مَنْ هو غافلٌ عن نفسه وجاهلٌ بها كيف تطمع في معرفة غيرك؟ وقد أمرك الله تعالى بالتدبر في نفسك في كتابه العزيز فقال: {وفي أنفسكم أفلا تبصرون} وذكر أنك مخلوق من نطفة قذرة فقال: {قُتِلَ الإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ * مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ * مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ * ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ * ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ * ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ} [عبس: 17-22] وقال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنتَشِرُونَ} [الروم: 20] وقال تعالى: {أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى * ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى} [القيامة: 37 - 38].
فتكرير ذكر النطفة في الكتاب العزيز ليس ليُسمعَ لفظه ويترك التفكر في معناه، فانظر الآن إلى النطفة - وهي قطرة من الماء قذرة لو تركت ساعة ليضربها الهواء فسدت وأنتنت - كيف أخرجها ربُّ الأرباب من الصُلْبِ والترائب وكيف جمع بين الذكر والأنثى وألقى الألفة والمحبة في قلوبهم، وكيف قادهم بسلسلة المحبة والشهوة إلى الاجتماع، وكيف استخرج النطفة من الرجل بحركة الوقاع، وكيف استجلب [البويضة] من أعماق العروق ثم كيف خلق المولود من النطفة وسقاه وغذاه حتى نما وربا وكبر، وكيف جعل النطفة وهي بيضاء مشرقة علقة حمراء، ثم كيف جعلها مضغة، ثم كيف قسم أجزاء النطفة وهي متساوية متشابهة إلى العظام، والأعصاب والعروق والأوتار واللحم؟ ثم كيف ركب الأعضاء الباطنة من القلب والمعدة والكبد والطحال والرئة والرحم والمثانة والأمعاء، كل واحد على شكل مخصوص ومقدار مخصوص لعمل مخصوص! ثم كيف قسّم كل عضو من هذه الأعضاء بأقسام آخر، فركّب العين من طبقات، لكل طبقة وصف مخصوص وهيئة مخصوصة لو فقدت طبقة منها أو زالت صفة من صفاتها تعطلت العين عن الإِبصار، فلو ذهبنا إلى أن نصف ما في آحاد هذه الأعضاء من العجائب والآيات لانقضى فيه الأعمار.
فانظر الآن إلى العظام وهي أجسام صلبة قوية كيف خلقها من نطفة سخيفة رقيقة، ثم جعلها قواماً للبدن وعماداً له، ثم قدرها بمقادير مختلفة وأشكال مختلفة فمنه صغير وكبير وطويل ومستدير ومجوف ومصمت وعريض ودقيق. ولما كان الإِنسان محتاجاً إلى الحركة بجملة بدنه وببعض أعضائه، مفتقراً للتردد في حاجاته، لم يجعل عظمه عظماً واحداً بل عظاماً كثيرة بينها مفاصل حتى تتيسر بها الحركة، وقدَّرَ شكل كل واحدةٍ منها على وفق الحركة المطلوبة بها، ثم وصل مفاصلها وربط بعضها ببعض بأوتار أَنْبَتَها من أحد طرفي العظم وألصقه بالعظم الآخر كالرباط له، ثم خلق في أحد طرفي العظم زوائد خارجة منه وفي الآخر حفراً غائصة فيه موافقة لشكل الزوائد لتدخل فيها وتنطبق عليها، فصار العبد إنْ أراد تحريك جزء من بدنه لم يمتنع عليه، ولولا المفاصل لتعذر عليه ذلك. ...
ثم انظر كيف خلق عظام الرأس وكيف جمعها وركبها، وقد ركّبها من خمسة وخمسين عظماً مختلفة الأشكال والصور فألف بعضها إلى بعض بحيث استوى به كرة الرأس.
ثم ركّب الرقبة على الظهر، وركب الظهر من أسفل الرقبة إلى منتهى عظم العجز من أربع وعشرين خرزة، وركّب عظم العجز من ثلاثة أجزاء مختلفة، فيتصل به من أسفله عظم العصعص، وهو أيضاً مؤلف من ثلاثة أجزاء.
ثم وصل عظام الظهر بعظام الصدر، وعظام الكتف وعظام اليدين، وعظام العانة، وعظام العجز، وعظام الفخدين، والساقين، وأصابع الرجلين.
وليس المقصود من ذكر أعداد العظام أن يُعرفَ عددها، فإن هذا علم قريب يعرفه الأطباء والمشرحون، إنما الغرض أن ينظر منها في مُدَبِّرها وخَالِقها أنه كيفَ قدَّرها ودبرها وخالف بين أشكالها وأقدارها، وخصصها بهذا العدد المخصوص لأنه لو زاد عليها واحداً لكان وبالاً على الإِنسان يحتاج إلى قلعه، ولو نقص منها واحداً لكان نقصاناً يحتاج إلى جبره، فالطبيب ينظر فيها ليعرف وجه العلاج في جبرها وأهل البصائر ينظرون فيها ليستدلوا بها على جلالة خالقها ومصورها، فشتان بين النظرين.
ثم انظر كيف خلق الله تعالى آلاتٍ لتحريك العظام وهي العضلات فخلق في بدن الإِنسان خمسمائة عضلة وتسعاً وعشرين عضلة - والعضلة مركبة من لحم وعصب ورباط وأغشية - وهي مختلفة المقادير والأشكال بحسب اختلاف مواضعها وقدر حاجاتها.
فارجع الآن إلى النطفة وتأمل حالها أولاً وما صارت إليه ثانياً، وتأمل أنه لو اجتمع الجن والإِنس على أن يخلقوا للنطفة سمعاً أو بصراً أو عقلاً أو قدرة أو علماً أو روحاً أو يخلقوا فيها عظماً أو عرقاً أو عصباً أو جلداً أو شعراً هل يقدرون على ذلك؟
وأنت ترى النطفة القذرة خلقها خالقها في الأصلاب والترائب، ثم أخرجها منها وشكّلها فأحسن تشكيلها وقدّرها فأحسن تقديرها وتصويرها. وقسّم أجزاءها المتشابهة إلى أجزاء مختلفة فأحكم العظام في أرجائها وحسن أشكال أعضائها وزيّن ظاهرها وباطنها ورتّب عروقها وأعصابها وجعلها مجرى لغذائها ليكون ذلك سبب بقائها، وجعلها سميعة بصيرة عالمة ناطقة وخلق لها الظهر أساساً لبدنها والبطن حاوياً لآلات غذائها والرأس جامعاً لحواسها، ففتح العين ورتّب طبقاتها وأحسن شكلها ولونها وهيئاتها، ثم حماها بالأجفان لتسترها وتحفظها وتصقلها وتدفع الأقذاء عنها، ثم أظهر في مقدار عدسة منها صورة السماوات مع اتساع أكنافها وتباعد أقطارها فهو ينظر إليها.
ثم شقّ أذنيه وأودعهما ماء مراّ ليحفظ سمعها ويدفع الهوام عنها وحوّطها بصدفة الأذن لتجمع الصوت فتردّه إلى صماخها ولتحسّ بدبيب الهوّام إليها، وجعل فيها تحريفات واعوجاجات لتكثر حركة ما يدب فيها ويطول طريقه فيتنبه من النوم صاحبها إذا قصده دابة في حال النوم. ثم رفع الأنف من وسط الوجه وأحسن شكله، وفتح منخريه وأودع فيه حاسة الشم ليستدل باستنشاق الروائح على مطاعمه وأغذيته، وليستنشق بمنفذ المنخرين روح الهواء غذاءً لقلبه وترويحاً لحرارة باطنه.
وفتح الفم وأودعه اللسان ناطقاً وترجماناً ومعرباً عما في القلب، وزين الفم بالأسنان لتكون آلة الطحن وال******ر والقطع فأحكم أصولها وحدّد رؤوسها وبيّض لونها، ورتّب صفوفها متساوية الرؤوس متناسقة الترتيب كأنها الدر المنظوم، وخلق الشفتين وحسَّن لونها وشكلها لتنطبق على الفم فتسدّ منفذه وليتم بها حروف الكلام. وخلق الحنجرة وهيأها لخروج الصوت. وخلق للسان قدرة للحركات والتقطيعات ليقع الصوت في مخارج مختلفة تختلف بها الحروف ليتسع بها طريق النطق بكثرتها.
ثم خلق الحناجر مختلفة الأشكال في الضيق والسعة والخشونة والملاسة وصلابة الجوهر ورخاوته والطول والقصر، حتى اختلفت بسببها الأصوات، فلا يتشابه صوتان، بل يظهر بين كل صوتين فرق حتى يميز السامع بعض الناس عن بعض بمجرد الصوت في الظلمة. ثم زين الرأس بالشعر والأصداغ. وزين الوجه باللحية والحاجبين، وزين الحاجب برقة الشعر واستقواس الشكل. وزين العينين بالأهداب.
ثم خلق الأعضاء الباطنة وسخّر كل واحد لفعل مخصوص