ثم قد تعلمون أنا ما أوصيناكم إلا بما قد اخترناه لأنفسنا قبلكم، وشهرنا به في الآفاق دونكم. فما أحقكم في تقديم حرمتنا بكم، أن ترعوا حق قصدنا بذلك إليكم، وتنبيهنا على ذكر العيوب براً وفضلاً، لرأينا أن في أنفسنا عن ذلك شغلاً. وإن من أعظم الشقوة، وأبعد من السعادة، أن لا يزال يتذكر زلل المعلمين، ويتناسى سوء استماع المتعلمين، ويستعظم غلط العاذلين، ولا يحفل بتعمد المعذولين.
عبتموني بقولي لخادمي: أجيدي عجنه خميراً، كما أجدته فطيراً، ليكون أطيب لطعمه، وأزيد في ريعه. وقد قال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه ورحمه - لأهله: أملكوا العجين، فإنه أريع الطحنتين.
وعبتم على قولي: من لم يعرف مواقع السرف في الموجود الرخيص، لم يعرف مواقع الاقتصاد في الممتنع الغالي: فلقد أتيت من ماء الوضوء بكيلة يدل حجمها على مبلغ الكفاية، وأشف من الكفاية. فلما صرت إلى تفريق أجزائه على الأعضاء، وإلى التوفير عليها من وظيفة الماء، وجدت في الأعضاء فضلاً على الماء، فعلمت أن لو كنت مكنت الاقتصاد في أوائله، ورغبت عن التهاون به في ابتدائه، لخرج آخره على كفاية أوله، ولكان نصيب العضو الأول كنصيب الآخر. فعبتموني بذلك، وشنعتموه بجهدكم، وقبحتموه. وقد قال الحسن عند ذكر السرف: إنه ليكون في الماعونين الماء والكلإ. فلم يرض بذكر الماء حتى أردفه بالكلإ.
وعبتموني حين ختمت على سد عظيم، وفيه شيء ثمين من فاكهة نفيسة، ومن رطبة غريبة، على عبدنهم، وصبي جشع، وأمة لكعاء، وزوجة خرقاء. وليس من أصل الأدب، ولا في ترتيب الحكم، ولا في عادات القادة، ولا في تدبير السادة، أن يستوي في نفيس المأكول، وغريب المشروب، وثمين الملبوس، وخطير المركوب، والناعم من كل فن، واللباب من كل شكل، التابع والمتبوع، والسيد والمسود. كما لا تستوي مواضعهم في المجلس، ومواقع أسمائهم في العنوانات، وما يستقبلون به من التحيات. وكيف وهم لا يفقدون من ذلك ما يفقد القادر، ولا يكترثون له اكتراث العارف؟ من شاء أطعم كلبه الدجاج المسمن، وأعلف حماره السمسم المقشر! فعبتموني بالختم، وقد ختم بعض الأئمة على مزود سويق. وختم على كيس فارغ، وقال: طينة خير من ظنة. فأمسكتم عمن ختم على لا شيء، وعبتم من ختم على شيء.
وعبتموني حين قلت للغلام: إذا زدت في الرق فزد في الإنضاج، لتجمع بين التأدم باللحم والمرق، ولتجمع مع الإرتفاق بالمرق الطيب. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: " إذا طبختم لحماً فزيدوا في الماء فإن لم يصب أحدكم لحماً أصاب مرقاً " .
وعبتموني بخصف النعال، وبتصدير القميص، وحين زعمت أن المخصوفة أبقى وأوطأ وأوقى، وأنفى للكبر، وأشبه بالنسك، وأن الترقيع من الحزم، وأن الاجتماع مع الحفظ، وأن التفرق مع التصنيع.وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يخصف نعله، ويرقع ثوبه. ولقد لفقت سعدى بنت عواف إزار طلحة، وهو جواد قريش، وهو طلحة الفياض. وكان في ثوب عمر رقاع أدم. وقال: من لم يستحى من الخلال خفت مؤنته، وقل كبره. وقالوا: لا جديد لمن لا يلبس الخلق.
وبعث زياد رجلاً يرتاد له محدثاً، واشترط على الرائد أن يكون عاقلاً مسدداً. فأتاه به موافقاً. فقال: أكنت ذا معرفة به؟ قال: لا، ولا رأيته قبل ساعته. قال: أفناقلته الكلام، وفاتحته الأمور قبل أن توصله إلي؟ قال: لا. قال: فلم اخترته على جميع من رأيته؟ قال: يومنا يوم قائظ، ولم أزل أتعرف عقول الناس بطعامهم ولباسهم في مثل هذا اليوم. ورأيت ثياب الناس جددا، وثيابه لبسا، فظننت به الحزم.
وقد علمنا أن الخلق في موضعه، مثل الجديد في موضعه. وقد جعل الله عز وجل لكل شيء قدرا، وبوأ له موضعاً؛ كما جعل لكل دهر رجالا، ولكل مقام مقالا. وقد أحيا بالسم، ومات بالغذاء، وأغص بالماء، وقتل بالدواء.فترقيع الثوب يجمع مع الإصلاح التواضع. وخلاف ذلك يجمع مع الإسراف التكبر. وقد زعموا أن الإصلاح أحد الكسبين، كما زعموا أن قلة العيال أحد اليسارتين. وقد جبر الأحنف يد عنز. وأمر بذلك النعمان. وقال عمر: من أكل بيضة فقد أكل دجاجة. وقال رجل لبعض السادة: أهدي إليك دجاجة؟ فقال: إن كان لا بد فاجعلها بياضة. وعد أبو الدرداء العراق حر البهيمة.