عشنا غرباء زمنًا, ثم بدأنا نألف الحي وأصواته, ووجوه سكانه وعاداتهم. خرجت من الشقة ذات صباح فإذا بي أواجه صاحب الشقة المقابلة خارجًا بدوره. واحتوانا المصعد معًا. لا أدري لماذا اطمأن قلبي إليه. ابتسامة مني - وكنت أنا البادئ- وابتسامة منه, وصلت الحديث بيننا. هو موظف كبير, على المعاش. دعوت الله أن يكون له ابن صالح, أو ابن أخ, أو ابن أخت, أو صديق أو معرفة, وقلت: لعلهم إذا رأوا أخلاقنا وشرفنا, وخبروا أحوالنا واستقامتنا, تقدموا بالخطبة. دعوته لزيارتنا, فإذا به - لشدة دهشتي - يقبل بسهولة. جاء وزوجته, سيدة نصف, حنت على أختي حنو الأم الرءوم. دعتنا لشرب الشاي عندهم وقالت وهي تنصرف:
- عسى أن تكون ابنتي سنية قد عادت من الإسكندرية فأقدمها إليكم.
حاولت ألاّ يظهر غمّي على وجهي. كنت أنتظر أسماء رجال لا نساء. وقلت في نفسي: "فلتكن زيارتنا الأولى هي الأخيرة, فلم أجئ هنا من أجل التزاور مع أسرة ليس لديها رجال".
وذهبت في الموعد المضروب, وأنا متحرج ضيق الصدر.
وجاءت سنية أيها الناس! لا تبخلوا على بكرمكم وطيبتكم.
أشفقوا على شاب قليل الخبرة والتجربة مثلي, ولا تبتسموا إذا وصفت لكم اضطرابي أمامها وحيرتي.
ماذا أقول? كان اللقاء هو بدء تاريخ حياتي. ما قبله جاهلية معتمة, وما بعده نور وإشراق, أحدثها وأسارقها النظر. وإلاّ كيف تقوي عيناي العاشيتان على مواجهة هذا الجمال كله? كنت بجانبها كالجرو المبتل يوضع في الشمس. ما كنت أدرك قبل رؤيتها أن اللباس من الفنون الجميلة. كأن جسدها تمني فكان ثوبها تحقيق أمنيته! وكأن الثوب نفسه اشتهى, فكان هذا الجسد خليلته التي وجد لديها السكينة وطعم الحياة. ثوب كم أبدَى وكم أخفَى! استدار عليها يكاد يأسرها, فإذا أسيرته طليقة تتحكم فيه. هابط إلى أن يقف حيث يتأرجح الذيل بين الكتمان والإفصاح. وحذاء تغنيك أناقته عن التساؤل عما يداريه. كل شعرة في رأسها اصطفت راضية بجانب أختها, أو التفت معها أو من تحتها, عالمة أنها تشارك في زينة, سعيدة ناعمة بالدور الذي رُسم لها. لو تهشم هذا الجسد وتفتت ألف كسرة, لما خدش جماله. وضحكت فأسمعتني ضحكة تختصر العمر كله. فيها سذاجة الطفولة, ومرح الصبا, ومرارة التجربة.. فم متهم وعيون بريئة. لم تهتم بي كثيرًا, وما وجهت إليّ غير نظرة أو نظرتين. ومع ذلك عندما انصرفت - وأنا أجر رجليّ جرًّا - كنت شاعرًا بتعب من جسّ دقيق تناول روحي وجسدي بأصابع توهم أنها تمسح وتربت, وهي تندس وتنقب. شعرت أنني عُرّيت وقُلّبت ظهرًا لبطن, وفُحصت واختُبرت: قيست قامتي, وسُبرت. وُزنت وكيّلت. عُركت وعُضضت بالأسنان, ورُننت على الأرض.. حُركت أوتار روحي واستُمع لموسيقاها, ثم استُخرج من مخبئه كتابي الدفين, فرُوجعت في النور صفحاته, وقُرئت سطوره كلمة كلمة. كل هذا والعيون مترددة, والشفاه مستفهمة. ثم أصدرت حكمًا لن يكون له نقض ولا إبرام, إلى آخر حياتها وحياتي.
أيها الناس! أشفقوا عليّ مرة أخرى. ولا تبتسموا من جديد إذا قلت لكم إنني تعبت حقًّا, ولكني مع ذلك وجدت في هذا التعب لذة كبرى. لم أخش حكمها, بل سرني أنها تناولتني بالفحص. كنت كالمريض لا يسعده أمل الشفاء, بقدر ما يسعده تقلبه بين يدي طبيب مدل ممتنع وراء أجر باهظ. انصرفت وأنا لا أزال ألوك في فمي لذة مذاقها. ولما دخلت شقتنا, حانت مني التفاتة إلى أختيّ, فقلت في نفسي - والأسى يملؤها: "ما ينقصهما والله إلاّ أن تطول الضفيرة, ويغطي الجورب السميك الرُّكبة. لتبدوا شابتين من الريف... من غد إن شاء الله, سأعني بتوجيههما إلى الاعتناء بهندامهما وزينتهما, وإلا كان فشل برنامجي المرسوم محققًا".
ولكني في غد نسيت كل شيء إلاّ سنية! حاولت أن أجد مسوغًا لتكرار الزيارة فلم أوفق, بل وجدت باب الشقة موصدًا في وجهي. ألأنهم رأوا لعابي يسيل وأنا أحدق في ابنتهم خلسة, فرثوا لحالى وأرادوا تجنيبي التعلق بسراب? لما شعرت أنهم يتعمدون صدى زاد هياجي, فإذا بي - وأنا المعروف باتزاني وأدبي - أفقد كل سيطرة على نفسي ورأيتني, لشدة دهشتي, آتي بحركات وتصرفات لا تصدر إلاّ عن أطفال أو مجانين. حاولت أن أستعين برشوة الخدم, فضحكوا مني. تصديت لها في الطريق. ألقيت أمامها رسائلي. تتبعتها كظلها. كل هذا وهي لا تتكرم عليّ بكلمة أو بابتسامة. أقسم لكم أنني لا أدري كم من الزمن مر عليّ وأنا في هذه الحالة. قد يكون أسبوعًا وقد يكون شهرًا. وأخيرًا ضاق ذرعي, وأحسست أن العذاب لو طال لقصفني الألم ودمر قلبي وقضى عليّ. هجمت عليها ذات يوم وهي سائرة وأمسكتها من ذراعها. لمسة فيها رعشة الغيظ والأمل, وقلت لها صارخًا:
- ماذا تظنين? أجري وراءك طول العمر? أليس لي عمل في الدنيا إلاّ أن أسير في ركاب حضرتك? العفو! الآن أريد كلمة واحدة: نعم أو لا.
فنظرت إليّ وابتسمت..
زرت معها معالم القاهرة, فكأنني سائح يجوس خلال مدينة مجهولة ساحرة لم يكن يعرفها من قبل. كنت أتلو كالببغاء قصيدة النيل, فشرحتها لي سنية بيتًا بيتًا, وأفهمتني جمال معانيها ولفتاتها. في حديقة الحيوان - التي طالما زرتها فلم أجد شيئًا - كلمتني لأول مرة, من وراء أعمدة السجن المؤبدة, عيون صافية جميلة حزينة, وشكت إلى وحدتها وآلامها, الفضل لسنية في الراحة الكبرى التي شملت نفسي عندما آخيتهم جميعًا, من زحف منهم أو طار, أو أودبّ على أربع.
قالت لي ذات يوم:
- ما العمل إذًا? إن بابا يرفض بتاتًا, لأنك موظف صغير ومرتبك قليل, ولا يدري كيف تقوي بهذا المرتب على المعيشة في جاردن سيتي...
ولما رأتني مطرق الرأس غمًّا أضافت تقول:
- ولكن ماما في صفي...
وكان القرار أن أنتقل إلى مسكنهم, على أن تذهب نعمات وعطيات للإقامة مع إحدى خالاتي...
كلهم قالو لي إنني ساعة "كتب الكتاب" كنت شارد اللب, ثم إذا بي فجأة أبتسم ابتسامة خفيفة, ظنوها من حرج سؤال المأذون الصريح. لا يعلمون أنني - ولا أدري كيف - انتبهت إذ ذاك فحسب, إلى قسوة الفكاهة, وهي تنطبق عليّ, في المثل القائل:
"راح يصطاد.... صادوه..."