ويتعالى, وهو عاجز في قبضتها, غريق, في أحضانها: ترى أين إحسان الآن? ألم يكن أولى بها - وهي ابنة عمه - من زوجها العامي الذي لا يحسن معاملتها? ألم تكن راحته وسعادته في الزواج منها? ولكنه تكبر وخان, وجرى إلى آمال كالأحمق...
وسار حسين على مهل إلى داره... المحاماة? هي مهنة مليئة بالكذب والخداع. كم يتألم ضميره وهو يصرخ أمام القاضي بكلام يعلم من قرارة نفسه أنه كذب وتلفيق. كل ذلك لقاء دراهم معدودة لا تسمن ولا تغني من جوع.
آه! آه! إنه أضاع حياته. وما فائدة جهاده في المحاماة والناس كالوحوش الضارية والذئاب المفترسة? إن اكتسى وجه الظالم بغلالة سوداء بغيضة, فما أجدر المظلوم الأنوف بأن يرفع رأسه ويتجلى وجهه أبيض وضيئًا. ولكن حسين يتطلع إلى وجوه زبائنه فلا يتبين الظالم من المظلوم. كل منهم تنطوي نفسه على الغلّ والحقد. لا يكتفي الظالم بجبروته, بل يهبط به جبنه إلى الدس والكيد والتلفيق... وعمي المظلوم عن نبل المطالبة بحقّه وثوابها, وامتلأت نفسه سما. لا يرضيها استرداد الحق بل الانتقام بأي ثمن من الخصم - ولو ظلما! كم كان يود أن لو اشتغل بالتعليم, لتكون براءة الطفولة الساذجة هي مادة عمله, وليساهم في بناء جيل صالح ينشأ على الأخلاق الفاضلة, تبدأ به مصر حياة جديدة. وهل هناك أنبل من وقفة المعلم أمام صف من الصبيان, يتطلعون بعيونهم المتعطشة إلى كل حركة تصدر منه وكل كلمة تخرج من فمه? هذا هو البناء الذي يرضي النفس. وأي مهنة أخرى تهيئ لصاحبها مثل هذه المتعة الروحية? أما الآن فإنه يجاهد في المحاماة جهادًا زائفًا مضيعًا. أحقًا أنه يعمل لرد الحقوق إلى أصحابها? إن صح هذا - وهو غير صحيح - فما فائدة تعمير البناء والأساس فاسد مختل? إنه يحس في نفسه القدرة على الصبر والتؤدة والتبسيط. وهذه صفات تؤخره في المحاماة, ولكنها خليقة بأن تدفع به إلى الصفوف الأولى لو أنه مارس التعليم.
قابلته آمال غاضبة تقول:
- لا أراك إلاّ والليل متقدم... وما أظنك غبت في هذا المكتب المبارك وهو أفرغ من فؤاد أم موسى... أكبر الظن أنك كنت مع صحبة السوء في لهو وعبث.
- كيف أرضيك يا آمال? ألاّ ترينني متعبًا?
وضع حسين يده على قلبه وتنهد.
- إن الأزواج ليرجعون إلى البيت فيحدثون أزواجهم ويلاطفونهن ويتسلون معهن...
- وماذا تريدين?
لوت خرطومها وتركته.
سار وراءها ذليلاً يقول:
- آمال! تعالي. تعالى نلعب الكونكان معًا, فأنا مهموم أريد أن أتسلى...
بلغ من ضعفه بين يديها أنه لا يجسر على أن يمن عليها بما يفعله لإرضائها, فكل خدمة منه لها يصورها خدمة منها له.
واستمر اللعب زمنًا, وتناول حسين ورقة يربح بها الدور, فرفع يده بها مسرورًا يقول:
- كُن...
ولكنه لم يستطع أن يتمها "كونكان".
انشق الجدار وخرج إليه منه رجل غريب, ولكنه ليس بالغريب عنه. هو أقرب إلى القصر منه إلى الطول. مال بوجهه الزكي الرائحة على حسين يقول:
- ياسي حسين! هل أنت ذاكر? لقد نفذت عهدي من الاتفاق. أليس كذلك?
ابتسم له حسين ابتسامة ملؤها الاطمئنان والود والإخاء وقال:
- تمم حديثك ولا تخف عني شيئًا. أكاد أفهم الآن كل ما كان غامضًا عليّ...
- نسيت أن أخبرك في ساعة اتفاقنا أنه لم يكن لك عندئذ من بقية العمر أكثر من تلك السنوات العشر التي تبرعت بها..
فهل أنت مستعد?
أسبل حسين جفنيه, وخفق قلبه, ومال عليه وجه سمح منزعج بقول:
- حسين! حسين! ما بك?
- من أنت?
- أنا إحسان! ألا تعرفني? لقد كنت أمامي منذ لحظة سليما معافى. فماذا بك? هل يؤلمك شيء? رد عليّ! أأدعو الطبيب?
ولكنه كان قد فارق الحياة, وعلى شفتيه ابتسامة خفيفة.
ووقفت أمامه إحسان ذاهلة لا تقوي على تفسير ما حدث كيف حدث!