هذا الأثاث اشتريته على عجل من أجل عشّنا. ما نقّبت ولا اخترت. ظل طول رفقتنا أنانيًّا أبكم. لم تحيه نظرة فاحصة من عينيك. ما سمعتك راضية عنه أو ساخطة عليه. وكنت إذا انتظرتك وفات - كالعادة - ميعادك, أتطلع إلى قطعه واحدةً واحدةً, فما حنّت يومًا وأسعفَت تساؤلي بجواب. حتى إذا أشرقت شمسك تلاشى كالظلام من حياتي.
ولكن ها قد حل يومك - ككل ظالم - أيها الأناني الأبكم. الآن بعد اختفائها نطقت, بل ما عدت تطيق السكوت. لا ينقطع تساؤلك "أين هي?" "متى تعود?" يكاد ينشق خشبك عيونًا جائعة تتلهف على نبسة من شفتي, وتكاد تتمزق منك أذرع تتشبث بي وتستجديني الجواب.
أيها الثرثار! لجّ في الكلام ما شئت. فأنا اليوم - ولم العجب? - كما كنت أنت بالأمس - أبكم! ولكن لا عليك أيها الوفي الأمين, أيحلّ لجريحٍ أن يعبث بجريح? ليس من رباط بين القلوب أقوى من العاهة المشتركة. أنا أيضًا أيها الرفيق الكريم لا أدري أين هي ولا متى تعود! فضم بلواك إلى بلواي لعلها بهذا عليك تهون.
أيها الرفيق اللقيط! لأنت عندي الآن أعز من أطهر الأبناء.
***
أيتها الفتاة الغريرة... لم يكن لي أمل فيك, ولا بنيت من حبك أكواخًا ولا قصورًا. لا يركن إلى الأمل إلاّ من قصُر يومه فاختلس من غده.
أما أنا فقد كان حاضري يفيض بي ويفيض عني.
كان! فكل ذلك قد ولى وفات. وكأن الذي أغدق على بالأمس غير مسؤول - يتقاضاني اليوم ثمن الإسراف بالحرمان.
وكم من محروم مظلوم!
***
بعد أيام قلائل من لقائنا كنت قد قصصت عليك ماضيّ, وكل حادثة ساقتني إليك. أما أنت فقد مر الحول وبعض الحول ولست أدري عنك شيئًا. ما هممت بسؤالك ولا شكا قلبي من ظمإ. فليس الغموض الذي يحوطك إلاّ انبهار العين من نورك الوهاج. وهل لك ماضٍ? إنك لست بنت الحوادث, بل أنت أم الحياة!
***
خَالَلْتُكِ عامًا وبعض عام. فما سمعتك تنطقين بفكرة أو تبدين رأيًا. ما تلوثت شفتاك بالحكمة, ولا نضح لسانك بالفلسفة. ما دلست الحوادث عليك معاني موهومة مزيفة ليهتز لها رأسك استعبارًا. ما سمعتك تذكرين ولا تأملين. لا ماضي لك ولا مستقبل, بل كنت في كل لحظة كمال الحياة لتلك اللحظة. تنفجر منك الحياة كمنابع الأنهار, لا يهمها أتبدد النهر أم اغتاله مستنقع. أتبخر هباء أم سار لغايته إلى البحر البعيد. تثب الحياة الغضة من عينيك. تسيل على صدرك. تتدفق من على جسدك وأنت لا تشعرين. وكنت أنهل من معينها الصافي فأجد فيه نشوة لم أجدها من عتيق الخمور. وأنت - لشقائي - لا تشعرين; فليس أكبر الألم ألاّ يشعر الحبيب بألمك, بل ألاّ يشعر بسعادتك.
***
ما من مرة احتضنتك بين ذراعيّ إلاّ شعرت بقسوة الموت وظلمه. هذا الجسد الغض المتألق, تتفجر منه الحياة, يصبح يومًا ما أبخرة عفنة وعظامًا نخرة.
***
أَلبَستْها العاملة أمام المرآة كُلَّ ما لديها من معاطف, واحدًا بعد واحد, فإذا بجمالها يطغى على التغيير والتبديل, تبدو لها في كل معطف فتنة جديدة.
وددت لو استطعت أن أشتريها لك جميعًا.
عادت إلى المعطف الأزرق, وجربته مرة أخرى, ودار جسدها أمام المرآة. وجهها ساكن, ونظراتها ثابتة على توءميها.... "رفقًا بجيدك يا فتاتي!" ثم خلعته, وعادت إلى بقية المعاطف فلبستها كلها واحدًا بعد واحد, ثم أشارت إلى المعطف الأزرق وقالت متراخية:
- هذا!
وهكذا تشاء الصدف ألاّ يتعلق ذوقك إلاّ بأغلاها!
- تريثي! إذا لم يعجبك هذا المعطف فغيره كثير. تعالى أريك متاجر أخرى.
لمستهُ بطرف إصبعها وقالت:
- أقضي به هذا الموسم, وفي العام القادم أشتري غيره.
كم وددت لو أنك قلت: "تشتري لي أنت غيره".
دعوت الله أن يقسم لي شراءه, كما يدعو السقيم ربه أن يمنّ عليه بالشفاء.
***
كنت معك في أحضان الرذيلة من أتقى الناس, لا تذوق شفتاي الخمر, وما بيني وبين الله عامر.
أما الآن, بعد اختفائك, فقد سكنتُ إلى الخمر, لا لأنساك, بل لأقوى على جر الماضي إلى الحاضر. لأعيش معك من جديد. فأنا اليوم سكير صالح مطرود من رحمة الله.
***
لقيتك ذات يوم, على غير ميعاد, في منعطف طريق, أغلب الظن أنك تسكنين قريبًا منه, وأنك خرجت عجلي لأمر. كنت عاطلة من الزينة, غير مسرحة الشعر, مهملة الملابس, على كتفيك معطف لعله معطف أخيك, وفي يدك حقيبة لعلها حقيبة خالتك. كنت لا تشعرين بنظراتي تعانقك من بعيد, وأنا واقف أتردد بين لذة اللقاء وراحة