التشفي. هذه التي أسرتني مضاعة بين الناس لا يشعر بها أحد. ملكة نزعت عن عرشها! هذا هو الطير المحلق يهبط على الأرض. أين جمال جناحيه وهو صافٌّ في السماء, من مهزلة اضطرابه وهو يحجل ويقفز?!
ولما ذهبت إلى عشنا. كنت أهدأ نفسًا. حسبتني أشد قوة على التخلص من سيطرتك, ولكنك ما كدت تجتازين الباب حتى هتف قلبي: "هي والله"! كوني ما شئت, ليمسخ الإهمال صورتك, ليقس الضنا على محياك, بل فليشوهك الزمن الذي لا يرحم, فأنت أنت عندي. لأنت آخر علمي وذوقي ومنتهى تجربتي. لقد كملت بك حياتي وتم وجودي, ولن أزيد بعدك شيئًا. حتى خيانتك لم يزدد بها علمي. هي تجربة أصبحتُ بعدها أكثر فهمًا لألم الخلق وأشد سخرية من ألم الخلق. فهذا العطف الذي أبذله باليمين, تسترده سخريتي باليسار.
***
ولكن صبرًا! سيأتي اليوم الذي أنساك فيه. حين يشيب شعري وتتساقط أسناني, وتنطفئ عيوني, حين يحتضنني الفراش فلا أقوى على التخلص من ضمته, وأستسلم إليه مضطرّا وأستريح, حين أفلح أخيرًا في جرّ رجلي جرًّا لأبحث عن الشمس, محدقًا في الناس وهم حولي, تحديق المشنوق في جلاديه. حين لا أستطيع أن أرى شيئًا, إذ يكون شبح الموت واقفًا أمامي. أعد أنفاسه قبل أن يعدّ هو أنفاسي.
عندئذ سأنساك! فليس أقوى من ذكراك عندي سوى الموت.
ولكن, ألا من يخبرني عندئذ كيف أمسيتِ? وكيف مرت عليكِ السنون?
***
هذه المخلوقات المنتشرة في الطريق, هاربة من الدور تارة, هاربة إليها مرة أخرى.
هذه الحثالة المتوسدة أرصفة المسالك...
هؤلاء الباعة الجوالون في الزحام, بعيدون بأنفسهم عن الزحام كالأرواح الضالة...
كلهم ينطق بالقدم والدوام. ما حلول جيل منهم محل جيل إلاّ كالثعبان يبدل جلدًا بجلد...
هكذا كنت أراهم ... أما بعدك فهم لديّ الآن سياح يهبطون بلدًا غريبًا. وجوههم بلهاء في جهلها. نظراتهم تائهة لا تستقر, ولا تقوي أرواحهم المهاجرة على أن تقول عن شيء: "هذا لي!".
كل هذا لأنهم لم يسعدوا يا حبيبتي برؤياك.
***
عندما كنت أخرج معك في هدأة الليل, كنت أشعر بأننا وحدنا في هذا العالم! تناسينا الأفلاك والنجوم, نسينا الليل, نسينا الناس.
وكان في نسيانها أكبر اللذة والسعادة.
أما اليوم. بعد اختفائك, فأسير والأفلاك والنجوم لم تتغير, والليل مغمض الطرف, والناس هُم هُم.
فأجد في نسيانها أكبر الألم والعذاب.
***
ألف ألف فتاة مثلك عاشت, فلمعت عيناها لمعان عينيك, وافترت شفتاها عن مثل بارق ثغرك, ثم طواهن الموت واندثر في التراب. قبلة واحدة منك لي كانت تكفي لبعث هؤلاء الموتى الجائعات للحب بعد طول الرقاد. في قبلتك لهيب ألف ألف ثغر ظامئ. أصبحت من أجلك أحب الموتى مثل حبي للأحياء.
***
وأغرب ما أعجب له أنني لا أسأل عن سبب اختفائك. وهل يستطيع من عاش معك معدوم المنطق, أن يعود فيتفهم العلل والأسباب? سأسأل عن السبب حينما يهدأ قلبي. إذًا فلن أسأل ما حييت. وإذا مات العالم معتزًّا بعلمه - فسأموت أنا معتزًّا بجهلى.
***
قرأت بحثًا كتبه شيخ من شيوخ الدين يعتمد فيه على المنطق العقلي, ليثبت أن الإنسان مسيّر لا مخيّر, فما اقتنعت وما فهمت أوله من آخره.
وتجيئين أنت, أيتها الفتاة الغريرة, فتكفيني نظرة واحدة من عينيك لأومن بالقدر وبالجبر. لأنني ألغيت معك منطقي وعقلي, وقنعت بالروح فآمنت.
***
لجأت إلى الكتب المقدسة الطاهرة أستنبئها: أيجيب الرحمن دعوة العاصي? فإني أريد إذا ما وقفت بين يدي الديان أن أسأله, قبل أن يغفر لي ذنوبي, أن يغفر لك ذنبك.
***
العالم مضطرب. والمدافع تقصف, والدماء تسيل. الدور تخربت, والنساء ترملت, والأرض أمنا العجوز في اللهيب. فماذا يكون شقائي باختفائك مع كل هذه الآلام? أأصرخ ليخرب العالم ما دمت أنا غير سعيد? لا وألف مرة لا, بل أدعو الله أن يعيد السلام حتى تنعمي يا حبيبتي أَنّى كنتِ بشبابك في ظلاله, وإن حرمني هذا السلام لذتي الأخيرة: لذة التشفي!
***
في المساء أقول: الفرارَ الفرارَ يا نفس. عبثًا حاولت الاستقرار والاطمئنان للخلو والعدم. من يلومك بعد أن ذقت معها طعم الوجود? عودي ارجعي أيتها النفس الفطيم إلى ظلامك وأوهامك, فلست والله تدرين بعد اليوم, إذ تطوف بك أشباح السعادة: أهي ذكريات الماضي أم آمال المستقبل? وفي الصباح أنتفض على بسمة الفجر ونشوة الطير -